نعى الناعي – بكل أسف - العلامة الفاضل، والداعية الرباني والوالد الكريم ابوه ولد محمد اطفيل، وبنعيه تصاب أمهات المكارم وحلق الذكر، والرأي السديد، والسمت الحسن، ولقد عاش الشيخ الفاضل في سير دؤوب إلى الله، ومرابطة في ثغور المجد، وتمثل سيرة حياته عمرا حافلا بالرقي في مقامات المعرفة، في منهج تعاضد فيه الشرع والعقل، فكانت خلاصته سيرة عطرة نقف عند بعض معالمها، وأملوها العيش مع كتاب الله، ومن أجل رسالته.
فالعيش مع القرآن نعمة مغبون فيها كثير من الناس، والذين حباهم الله بنعمة العيش في ظلال القرآن تزكوا نفوسهم وتصفوا فهومهم وتنفتح القلوب لما يقولون، وإني لأذكر أول مرة حضرت فيها درسا للشيخ الفاضل ابوه ولد محمد اطفيل وهو يحدث في جامع أغشوركيت عن بعض مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فكان حديثه جامعا بين العمق والدقة والصدق، والجمال والجلال، والمتأمل لسيرة الرجل يدرك أنها سيرة فواحة بالجد والطلب والأهبة في سبيل تعلم العلم وتعليمه، فقد نشأ في بيئة علمية تعلم في رحابها علوم القرآن ومبادئ الفقه والنحو.
وهو رحمه الله من مواليد 1938 في ألاك، وقد حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة ودرس النصوص المحظرية المعتمدة، قبل أن ينتقل إلى معهد أبي تلميت سنة 1960، والمعهد إذ ذاك قبلة لطلاب العلم، وقد جمع خيرة علماء البلد في مختلف الفنون، وكان يومها بمستوى مدرسة عليا خرجت أفذاذ العلماء والأساتذة ومن أصبحوا أطر الدولة فيما بعد، وما كان لنفس الأستاذ الفاضل وهمته المتوثبة أن تقنع بما دون النجوم، فتفرغ للتعلم في مكتبة معهد أبي تلميت وكانت غنية جدا بالعلوم الشرعية واللغوية مستفيدا من مختلف المدارس الإسلامية فقها وأصولا وتربية.. الخ
المعلم المخلص
وإلى جانب مسيرة التحصيل الحافلة بالبذل مسيرة عطاء تفصح عن الإخلاص للعلم، وتلك نعمة قليل من حظي بها من الناس، فقد شارك الشيخ الفاضل في مسابقة تكوين المعلمين وكان من الأوائل.
كما التحق بمدرسة تكوين المعلمين عند إنشائها وتخرج منها معلما تاما، ثم تدرج في السلك التعليمي فشارك بعد ذلك في مسابقة الأساتذة ونحج فيها ليتخرج أستاذا للغة العربية والتاريخ والجغرافيا جامعا بين التدريس والعمل الإداري، حيث عمل مديرا للدروس في ثانوية بوكي لعدة سنوات، واختير بعد ذلك مفتشا للتعليم الثانوي، وبقي في تلك الوظيفة حتى أحيل للتقاعد.
وبعد الفراغ نصب....
لم يكن التقاعد بالنسبة للأستاذ إلا فرصة للنصب والدأب في سبيل بث رسالة العلم واستفراغ الجهد في البحث والتدريس والتبليغ، فاشتغل بتدريس العلوم الشرعية في المحاضر وتفرغ للبحث في مجال الثقافة والعلوم القرآنية، وأعد مكتبة علمية تحتوى مختلف التخصصات واختط لنفسه خطا منهجيا قوامه التفكير المنطقي الذي يقنع العقل ويهتدي بنور الوحي، وكان من أهم انشغالاته حمل هم تطوير المحظرة ومناهجها، فشارك في العديد من الملتقيات الوطنية والإقليمية حول تطوير المحظرة الموريتانية، وتعززت هذه الروح المنهجية بالتركيز على البحث في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الذي أنجز فيه عدة دورات تكوينية ومحاضرات لجمعيات ونواد.
المرابط في المساجد
المسجد منطلق الرسالة الإسلامية ومعمل صناعة الرجال الذي منه انطلقت تباشير الحضارة الإسلامية... تلك خلاصة آمن بها الشيخ الفاضل فعكف على تجسيد هذه الرسالة وتجويدها من خلال دروس علمية ووعظية قدمها بمنهجية جامعة بين التبسيط والعمق، وكان له منبر ثابت في مسجد قبا بمقاطعة تيارت، وعدة مساجد في نواذيبو.
العالم الأديب:
وعن عمق التكوين وسعة الفكر تفصح عبقرية الشيخ حين تجالسه فتغنم من عيون الأدب، وروائع الحكم، وجمال الأسلوب، فقد عرف عن الشيخ علو كعبه في صناعة الأدبين... وحين يحدث عن شخصية العالم يلح على أهمية اتسامه بسمتي المنهجية وحسن الذوق، فذلك أضمن لسلامة رأيه، وتوازنه...
وبالجملة فالأستاذ والشيخ ابوه شخصية فذة صاغها القرآن الكريم فجمع صاحبها نور العلم، وصدق التجربة، وعمق الفكر وسمو الروح - نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله - ومزج بين العلم والعمل، والإنتاج والدعوة، والزهد والفاعلية في الحياة... ولم يقنع من العلم بما دون التضلع، ولا من المعرفة بما دون اليقين، فكان حقيقًا أن ينشد قول إقبال:
حديث الروح للأرواح يسري *** وتدركه القلوب بلا عناءِ
هتفت به فطار بلا جناحٍ *** وشق انينه صدر الفضاءِ
ومعدنه ترابيٌ ولكن *** جرت في لفظه لغة السماءِ
لقد فاضت دموع العشق مني *** حديثا كان علوي النداءِ
فحلق في ربى الأفلاك حتى *** أهاج العالم الأعلى بكائي
تحاورت النجوم وكل صوتٍ *** بقرب العرش موصول الدعاءِ
وجاوبت المجرة عل طيفاً *** سرى بين الكواكب في خفاءِ
وقال البدر هذا قلب شاك *** يواصل شدوه عند المساءِ
ولم يعرف سوى رضوان صوتي *** وما أحراه عندي بالوفاءِ
رحم الله الرجل القرآني الفاضل ابوه ولد محمد اطفيل، ورفع درجته عليين، وعوضه خيرا منا، وعوض أسرته وأمته خيرا منه.