من الانقسام إلى الشراكة: ما الذي يمكن أن نتعلمه من فرنسا وألمانيا؟

موريتانيا وجيرانها في أمسّ الحاجة اليوم إلى نماذج عملية للتكامل الإقليمي، مثلما احتاجت ألمانيا إلى جيرانها بعد الحرب لتتجاوز ماضيها وتبني مستقبلًا مشتركًا. فدول المغرب العربي وغرب إفريقيا تواجه تحديات مشتركة: الهجرة، الأمن، البطالة، وتغير المناخ، وهي ملفات لا يمكن لأي دولة معالجتها منفردة، مهما كانت مواردها أو قدراتها.

 

ورغم التاريخ الثقافي المشترك، والانتماء الجغرافي الواحد، لا تزال المبادرات الإقليمية تعاني من ضعف التنسيق وقصر النفس

. في هذا السياق، تقدّم التجربة الألمانية الفرنسية نموذجًا ملهمًا لكيفية بناء شراكة حقيقية بين شعوبٍ جمعها الصراع لقرون، ثم قررت أن تصنع السلام بنفسها، ومن جذور مجتمعها، عبر الأجيال الجديدة.

 

تمثل هذه التجربة مثالًا حيًا على إمكانية تجاوز الماضي المؤلم لصالح بناء مستقبل مشترك. فقد شهد التاريخ الحديث صراعات دامية بين فرنسا وألمانيا، لكنهما استطاعتا، بعد الحرب العالمية الثانية، تجاوز العداء وتحويله إلى تكامل فعلي، اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا. وأحد أبرز مظاهر هذا التحول هو تأسيس “مكتب الشباب الفرنسي-الألماني” عام 1963 بموجب معاهدة الإليزيه، التي وقعها كل من الرئيس الفرنسي شارل ديغول والمستشار الألماني كونراد أديناور.

 

بعد 18 عامًا فقط من نهاية الحرب، أدرك الزعيمان أن الوقت قد حان للبدء في بناء الثقة بين الشعبين، وأن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه دون مخاطبة الأجيال الجديدة. لم يكن كافيًا توقيع المعاهدات الرسمية، بل كان لا بد من خلق مساحات حقيقية للتلاقي. ومن هنا وُلدت فكرة المكتب الذي يعمل على تبادل الشباب بين البلدين، حتى لا تُورَّث الكراهية وتُغذّى الريبة عبر الأجيال.

 

يشرح الموقع الرسمي للمكتب مهمته على النحو التالي: 

 

“ندعم التبادل الشبابي من خلال مشاريع تشمل تبادل الطلاب في المرحلتين الثانوية والجامعية، ودورات اللغة، والتوأمة بين المدن، والتعاون الرياضي، والتدريب المهني، والندوات، والمنح البحثية.”

 

وقد وُضعت له خمسة أهداف رئيسية:

 

1. تعميق العلاقات الفرنسية-الألمانية.

2. تأهيل الشباب لسوق العمل الأوروبي.

3. دعم تعلم اللغتين الفرنسية والألمانية.

4. تعزيز التفاهم بين الثقافات.

5. تبادل الخبرات الشبابية والمصالحة مع شعوب أخرى.

 

يشرف على المكتب مجلس أمناء يتكوّن من 14 عضوًا، يترأسه بالتناوب وزير التربية الفرنسي والوزير الاتحادي الألماني لشؤون الأسرة والشباب. وتُموّل أنشطته بالتساوي بين البلدين، بميزانية سنوية لا تتجاوز 30 مليون يورو، تمكّن من خلالها من تنفيذ أكثر من 360 ألف برنامج تبادل، شارك فيها أكثر من 9 ملايين شاب من البلدين، شملت مجالات مثل الرياضة، العلوم، الموسيقى، الاقتصاد، وبرامج إعداد قادة المستقبل.

 

ويظهر أثر هذه العلاقة المتينة بوضوح في الأرقام الاقتصادية، حيث تُعتبر فرنسا أحد أهم شركاء ألمانيا التجاريين: تصدّر إليها ألمانيا بما قيمته 120 مليار دولار، وتستورد منها ما يعادل 75 مليار دولار سنويًا.

 

ولا تقتصر الشراكة بين البلدين على المجال التعليمي والشبابي، بل تشمل كذلك الجانب الإعلامي والثقافي. فقد أُطلقت عام 1990 قناة ARTE التلفزيونية كمشروع مشترك، تُبث باللغتين الفرنسية والألمانية، وتهدف إلى بناء جسور ثقافية تتجاوز جراح الماضي.

وتُموّل القناة أيضًا مناصفة، بميزانية سنوية تبلغ نحو 140 مليون يورو، وتُنتج أكثر من 400 فيلم سنويًا، وتعد اليوم منصة رائدة للمحتوى الثقافي الأوروبي المشترك.

 

إنها بالفعل تجربة جديرة بالتأمل. فبعد مئات السنين من الحروب وخطابات الكراهية، قررت القيادات الفرنسية والألمانية – بدءًا من ديغول وأديناور – أن يقطعوا حبل العداء المتوارث، ويزرعوا بذور الثقة عبر الشباب، وليس فوق رؤوسهم.

والدرس البليغ هنا هو أن الثقة لا تُفرض، بل تُبنى، وأن لقاءات الشباب من مختلف الدول يمكن أن تخلق علاقات متوازنة قائمة على المصالح المشتركة، وتحول “الآخر” من خصم إلى زميل، ومن زميل إلى صديق، فتُفتح أمام الجميع آفاق جديدة للسلام والتكامل.

 

فهل آن الأوان لأن تستثمر دول منطقتنا في جيل جديد من التفاهم الإقليمي، وتبني من خلاله مستقبلًا يتجاوز التنافس الضيق إلى شراكة تتسع للجميع؟

 

محمد يحي ولد الجراح 

برلين ، ألمانيا 

سبت, 19/04/2025 - 22:50