
منذ فترة وأنا أتابع باهتمام كبير ذلك التحول المزعج في سلوك مجتمعنا الذي تجسد في سلسلة من الانزلاقات المتسارعة نحو قاع التفاهة، بطرق وأساليب حطمت كل التصورات الراسخة عن تطور واختفاء بعض المظاهر والمفاهيم المرتبطة بالأجيال من حيث مسألتيْ القبول والرفض، وإن كان المهتمون قد سبقوني لتتبع مظاهر انتشار التفاهة في مجتمعات أخرى وكيف تحولت من حالات نادرة إلى نظام محكم، وفي هذا الصدد سنركز على نماذج بعينها، بدءا بكتاب " تفاهة الشر" أو The Banality of Evil لمؤلفته (حنه أرندت)، التي توصلت إلى أن الشر كله يكمن بالتفاهة.
ثمة من يرى أن هناك مظاهر أخرى تكمن في استبدال التجارب الحقيقية لبني البشر بصور وهمية، حيث كل تفاصيل التفاهة، وهذا ما ذهب إليها مؤلفون كثر من بينهم الفيلسوف الفرنسي Guy DEBORD في كتابه الصادر في العام 1967 والمعنون ب: la Société de Spectacle .
في حين أرجع بعضهم بدايات نظام التفاهة إلى أنانية النخب السياسية والثقافية التي تخلت عن دورها في توعية المجتمع حفاظاً على مصالحها الضيقة، وهو التفسير الذي تبناه (يستوفر لاش) في كتاب نشره عام 1994 موسوم بــ: "تمرد النخب وخيانة الديمقراطية" The Revolt of the Elitesand the Betrayal of democracy ، وقد أثار كتاب "نظام التفاهة" للمفكر الكندي (ألان دونو) ضجة بعد صدوره في العام 2015 ، وذلك لقدرته على تشخيص واقع المجتمعات الغربية الذي أصبح يُدار بواسطة نظام تتحكم التفاهة في كل مفاصله الحيوية .
هناك على ما يبدو خلل في ترتيب أولويات المجتمعات وانقلاب في هرمية المعاجم المستخدمة في لغة الاتصال بين ساكنة العالم ناتج عن عجز فى التفكير انتقل فجأة من سلوك شاذ إلى نظام يتحكم في كل شيء، وبدا أن هاجس استغلال الطبقة العاملة الذي عبر عنه ماركس في كتابه الشهير "رأس المال" لم يعد مطروحاً لأننا انتقلنا من الاستغلال البدني للعمال إلى التحكم في نمط تفكيرهم وبصورة تخدم النظام ذاته، وكهذا أصبحنا أمام قاموس افتراضي يخدم التفاهة من خلال استبدال كلمة مفكر بمؤثر والباحثين بالمشاهير، بمعنى أن قيمة الأشخاص أصبحت تُقاس بمدى قدرتهم على التأثير السلبي في مجتمعاتهم، بعيدا عن عملية إنتاج فكرية كان يتم التنظير لها على مستوى النخبة في نقاش جاد لتُنقل للعامة في شكل مسلمات آمنة تراعي قيم المجتمع.
لم يَحد نظام التفاهة في موريتانيا عن المسار الذي سلكه في دول ومجتمعات أخرى، إذا ما استثنينا القابلية الفطرية للفوضى لدى مجتمعنا، والظاهر أن بوادره بدأت بتغيير سردية الجدات عن سير الخلفاء وأبو عشرين ظفرا، وقصص "كِرْفَافْ" وخداع الذئاب وغيرها من الحيوانات الواقعية والمُتخيلة، في تعبير مركز عن الصراع الأزلي بين الخير والشر، والذي حلت محله المسلسلات المدبلجة التي تعكس واقع مجتمع رأس مالي في أمريكا اللاتينية مخالف تماماً لبيئتنا البدوية، ومع ذلك صارت حلقاته جزءاً من قصص نحكيها لأحفادنا قبل النوم، تماماً كما كانت حديث الناس في وسائل النقل العامة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
شكل الاهتمام الزائد من قبل الشباب بالدوري الأوروبي وكوبا أمريكا وغيرهما أحد أهم مظاهر تفشي التفاهة في مجتمعنا، وإن كان هذا النمط منها ظل حبيس فئات عمرية، ولم تستطع التفاهة التسلل للسياسة في البلد إلا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي أدخلتها ضمن منظومة الإنتاج، وبذلك أصبح تأثيرها واضحاً على أصحاب القرار ، واحتل مشاهير السيوسال ميديا، على تفاهة ما يقدمون، مكانة خاصة بين عِلية القوم عبر حرق للمراحل يوحي بتغلغل هذا النمط في مختلف مناحي الحياة.
سبق للشيخ الحاج المشري في فيديو متداول أن نبه إلى خطورة مصادرة "التافهين" لوظائف أصحاب الرأي ممن لهم الحق في توجيه المجتمع، لكن مقاربة بعض الكتاب في التصدي للتفاهة في جانبها المنطوق المعتمد بطبعه على البذاءة كلغة للتوصيل السريع، قد جانبت الصواب في رأيي ، فلم يعد تجريد البشر من إنسانيته سببا لقتله، كما حدث في رواندا، لأن الانتقام اللفظي متاح للجميع، ما يعني بالضرورة تحويل شحنات من الحقد إلى موجات صوتية مدرة للدخل.
علينا أن ندرك أن ما نسميه بالخطاب المنحط هو جزء من منظومة اقتصادية واجتماعية كونية آخذة في الانتشار، وأن أي تفكير جدي في التصدي له ينبغي أن يركز على استخدام الطرق المتاحة غير التقليدية لترويضه، وإلا سنقف عاجزين عن تحمل الأخطار المترتبة على التفكير بمنطق يخرج التفاهة من براغماتيتها إلى فرضها على الترويج للعنف باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الفضيلة.
د. أمم ولد عبد الله