كانت محنة الديمقراطية إجهاضا للوعي الثوري، ومشاريع الإصلاح الوطنية في مراحل تشكلها السري..
فحططنا يوم ظهورها قدورنا عن النار قبل أن تنضج موائدنا، وجرفنا حقولنا خضراء قبل أن تستحصد، وقتلنا صبايا سنابلها العذراء ولم يعرف الأتراب من ثُديِّها حجما..
كنا نسير على الشارع المتجه شرقا من طريق الأمل(قيادة الحرس) إلى شارع جمال عبد الناصر قرب آفاركو..
فلاحظنا حشدا مختلطا، وضجيجا لا يهدأ قرب إحدى دور الحي L، فتوقفنا لأن الطريق شبه مسدود، فأرغمنا ذلك على أن نكون جزءا من المشهد...
عجيب..
كلما قرأت حديث القوم الذين استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وعندما قال الذين في أسفلها للذين في أعلاها لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن شدوا على أيديهم نجوا جميعا..
سيدى تيام صمبا، معلمي العزيز، هل تذكر وأنا أقلب صفحات السنين المعتمة لأصل إليك، أن آخر لقاء جمعنا كان منذ تسع وأربعين سنة..نصف قرن..عمر جيل..قبل حرب الصحراء، وقبل سقوط نظام ولد داداه، وقبل مسلسل الانقلابات العسكرية..وقبل غزوة الأحزاب، وتغيير أسماء الولايات..
ستحلم كثيرا، ستبني لك الأوهام عمارات تهمس في أذن القمر، ستجري حول ضياعك الأنهار..ويطربك حنين النوق وخوار البقر، ستقبل عليك الدنيا بصامتها، وناطقها، وتغني بفضلك القيان..
يا ولدي! وستتخير من الحور العين، اللائي لم يطمثهن إنس قبلك ولا جان، ويمتلئ صحن بيتك بناشئة صغار، أنقياء كالملائكة، لا يعصونك ما أمرتهم، ويفعلون ما يؤمرون...
مالت شمس انواكشوط ذلك المساء الشتوي المغبر كاسفة حزينة..
المساءات هي غروب آمالنا، وأعمارنا، هي أشياؤنا الجميلة تنتزعها منا اللحظات المجنونة بقسوة، وعناد..
لملم الفتى متاعه، ودس في حقيبته البنية كتابي النبي، والفضيلة، ورحل مع خيوط شمس صفراء تهوي مستديرة كقطعة نقود أثرية...
التابع السياسي لا يقبل الفطام، بل لا يقبل(اتغيدين)، وهو فطام الليل، الذي تمهد به الأم لفطام ولدها نهائيا..
قصعة التابع لا تجف، وطعامها لا يقل، وسيل الدراهم المتدفقة إليه لا ينقطع..