منتديات إصلاح العدالة: الرهانات والمكاسب المجتمعية 

العدالة قبل أن تكون مفهومًا "قانونيًا" هي مفهوم أخلاقي وتاريخي وفلسفي ،هي غنية في تعدد معانيها ووظائفها، وبالإضافة إلى ذلك فإنها تحتل مكانًا أساسيًا بالنسبة للدولة والمجتمع على حد سواء ، ذلك أن أهميتها لا تقتصر على وظيفة بيان القانون وإصدار الأحكام وإنما لكونها أيضًا عاملاً مركزياً في القضايا المتعلقة بالبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والأمنية للمجتمع . ونتيجة لذلك فإن تنظيم العدالة وإصلاحها يعزز احترام حقوق الإنسان والأمن الاجتماعي والديمقراطية.كما أن من شأن  العدالة الجيدة تأمين الاستثمارات الداخلية والخارجية ، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي وتحفيز التنمية.وفي ضوء هذه الأهمية المٌضَاعَفَة فإن تشخيص واقع مؤسسة العدالة ورسم معالم مستقبلها لا يمكن أن يكون من اختصاص جهات العدالة وحدها. لا شك أن السلطات القضائية معنية بهذا المستقبل في المقام الأول إلا أن مؤسسة العدالة تمثل قطاعا عموميا يهم جميع المواطنين وجميع السلطات العمومية. وبالتالي لا يمكنها ولا يجب عليها أن تستسلم لسراب الإدارة الذاتية ووهم الاعتقاد بأنها وحدها قادرة على الحفاظ على قوتها أو إصلاح ذاتها بذاتها. يجب الحفاظ على استقلالية العدالة وصيانة القضاء ضد التدخل الخارجي،ولكن أيضًا ضد إغراء المرجعية الذاتية والتمركز حول الذات بعيدا عن التفاعل الايجابي مع مؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى.وتمشيا مع هذا المنظور أقامت وزارة العدل في بداية شهر يناير الجاري منتديات عامة لإصلاح قطاع العدالة ، وقد شارك في هذه الورشات ممثلون عن قطاع العدالة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني على سبيل المثال لا الحصر .وعلى الرغم من أن هذه الورشات بدت كما لو كانت مجرد محاولة لإصلاح مؤسسة العدالة من الداخل أو بعبارة أخرى محاولة لإعادة ترتيب الشأن الداخلي للقضاء إداريا وماليا وقانونيا فإنها، أي  هذه الورشات ، لفتت الانتباه إلى ثلاثة رهانات ينبغي أن تٌعَبِرَ عنها مخرجات المنتديات العامة حول العدالة : 

أولا،الرهان الاجتماعي :  يتعلق هذا الرهان بتعزيز الثقة بين مؤسسة العدالة والمجتمع من خلال تحسين صورة العدالة في ذهن المواطن باعتبارها الحامية للحقوق الفردية والجماعية وللحريات العامة .العديد من المواطنين لا يرون في مؤسسة العدالة أكثر من سلطة لمحاسبة لصوص وصعاليك الأحياء الشعبية ولكنهم لا يرون فيها سلطة مضادة مستقلة وقادرة على إصدار الأحكام القضائية المناسبة حول كل القضايا المعروضة عليها.الفكرة العامية السائدة عنها  أنها سَكْرَتَارْيَا مركزية للسلطة التنفيذية وامتداد لتوجيهاتها ولقراراتها السياسية لا أكثر . فهذه الصورة النمطية تحتاج إلى تعديل بحيث تستعيد العدالة ثقتها مع كل أفراد المجتمع . كما أن تعزيز الثقة بين المواطنين و العدالة يمر عبر قدرة هذه الأخيرة على  البت في قضايا الرأي العام وتلبية التوقعات المشروعة للمتقاضين من خلال الفصل في المنازعات المعروضة عليها في غضون فترة زمنية معقولة ، لأن إطالة فترات الحكم و تنفيذ قرارات المحاكم في وقت متأخر يقلل من فعالية العدالة  ويٌضْعِف مكانة المؤسسة القضائية في المجتمع. وليس أدل على ذلك من تأخر الحسم القضائي في ما يعرف بملف العشرية ، ملف الشٌبَه المتعلقة بالفساد المالي والإداري الذي مازال الرأي العام الوطني يتطلع إلى طَيِّ صفحته . 

ثانيا ، الرهان السياسي : يتعلق الأمر بتأمين دعم السلطات السياسية العليا ممثلة في رئيس الجمهورية والسلطتين التنفيذية والتشريعية ، وذلك من خلال تعزيز استقلالية القضاء وتحريره من قبضة وتأثير القوى والسلطات السياسية .صحيح أن القضاء لا يشكل "سلطة " تضاهي السلطة التنفيذية والسلطة البرلمانية إلا أنه يجب أن يستفيد من وضع يحميه من أي تدخل خارجي يتجاوز مقتضيات مبدأ الفصل بين السلطات . وهذا ما يعني أن أي إصلاح للعدالة لابد أن تتبناه السلطات العليا في البلد بما في ذلك السلطتين التنفيذية والبرلمانية ، الشيء الذي لا يمكن أن يتحقق إلا باحترام وعدم تجاوز الخطوط الحمراء لكلى الطرفين : يميل السياسيون إلى انتقاد إضفاء الطابع القضائي على الحياة العمومية ، عندما يتم اتخاذ قرارات تهدد مصالحهم أو تشكك في مسؤوليتهم الجنائية ولا يرغب القضاة في تدخل غير مبرر لقوى أو سلطات من خارج دائرة القضاء . وبالتالي فإن أي إصلاح للسلطة القضائية خصوصا ولمؤسسة العدالة عموما يقتضي إقامة مصالحة بينها والسلطة السياسية الحاكمة وفقا لمبدأ فصل السلطات ، هذه المصالحة هي التي سَتٌعَبِدٌ الطريق أمام أي إصلاح محتمل .

ثالثا ، الرهان المٌؤسَسَاتِي : تمثل ورشات إصلاح العدالة فرصة لإجراء تشخيص دقيق ومٌوَثَقْلظروف عمل العدالة ، وصعوباتها المادية ، وطبيعة القضايا المطروحة ونواقص السياسات العامة المٌنَفَذَة.إلا أن هذا التشخيص لا يجب أن يقتصر على إعادة ترتيب الشأن الداخلي لمؤسسة العدالة ولاسيما من حيث حاجتها إلى الانفتاح على تكنولوجيا المعلوماتية وإلى المزيد من الموارد المادية والبشرية ، فبالإضافة إلى كل ذلك يجب أن يمثل هذا التشخيص فرصة لتوضيح دور العدالة في المجتمع ، ومكانة السلطة القضائية ورسالة القاضي. هذه الاعتبارات مٌجْتَمِعَةً هي التي ستخلق إدارة أكثر صرامة ورؤية ديناميكية وتَطَلٌعِيَة لمؤسسة العدالة .

لقد كانت منتديات إصلاح العدالة مناسبة لعرض تحديات حَوْكَمَةِ العدالة وإصلاحها ولاشك أن التفاعل الايجابي مع توصيات مختلف الورشات سيعزز ثقة المجتمع الموريتاني في المؤسسات القضائية الوطنية وسيخلق شراكة ديناميكية وتفاعلية جديدة بين السلطات القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية ، وهذه الشراكة الجديدة هي التي سَتٌوصِلٌ البلاد إلى توازن القوى من جميع فروع السلطة ، مما يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد ، فضلاً عن استقلال القضاء. 

الدكتور / سيدي محمد يب أحمد معلوم 

خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات

اثنين, 16/01/2023 - 15:11