هل يعيش نواكشوط حقبة هوسمانية؟

"العصر الهوسماني" هو حقبة تاريخية رسمت معمار باريس المعاصر، وتنسب إلى البارون والمهندس والسياسي جورج أوجين هوسمان (1809 -  1891 م)، الذي وضع مخطط عاصمة الأنوار في القرن التاسع عشر وفق نظام البوليفارد والمباني المتراصة الطويلة والميادين الخضراء الواسعة.

أشعل جذوة هذا المشروع طموح نابليون الثالث بعد عودته من منفاه اللندني سنة 1848 ورؤيته لمستواها الحضري المتقدم مقارنة بمدينته، فأوعز إلى ذلك البارون بقلب المدينة رأسا على عقب بعد توليه مقاليد الجمهورية الفرنسية الثانية، فكان «المخطط الهوسماني» محطة فارقة في تأهيل باريس الحديثة كما تشتهر اليوم، حيث هدمت الأحياء القديمة وأنشئت أحياء جديدة وطرق فسيحة مبلطة ومزدانة بالأشجار وشبكات مدروسة للسكة الحديدية وصروح فخمة من أشهرها دار الأوبرا.

فهل تعيش نواكشوط حقبة هوسمانية شبيهة مع المهندس ورئيس الحكومة المختار ولد الجاي مع فوارق في التاريخ والشكل والمضمون والآليات، بعد تسلمه وإشرافه ومتابعته لملف عصرنة نواكشوط، وهل سنرى آثارا ومعالم تصنع علامات فارقة في التاريخ الحضري لهذه العاصمة التي لم تجد حقها من العناية بعد 65 عاما من الاستقلال.

فقد طالعت كغيري من المتابعين خرجات المهندس ولد الجاي الأخيرة ومعاينته الميدانية لبعض الأشغال في مشاريع هذه العصرنة، ومن ذلك عمليات التجريف والتشجير والرصف في خطوط طويلة وسط العاصمة، وإن حضرت النية والعمل الجاد فكل ذلك لا يكفي، فالعمليات المرتجلة في البناء والهدم شاهدناها مراراً، مثل رصف الطرق قبل وضع شبكة صرف صحي، والتشجير الطويل الغير منتظم والذي لا تطبعه المعيارية والقياس، ما يجعل من كل هذه المشروعات عشوائيات أخرى ترهق كاهل المدينة المثقل بكل التراكمات الحضرية الفوضوية السابقة.

تخطيط المدن يبدأ بشبكات واضحة لتمديدات الخدمات "كل الخدمات من ماء وكهرباء وإنترنت وصرف صحي وغاز إن كان الأمر جديا أكثر"، مع مخططات واضحة لهذه الشبكات الأرضية، مرنة في التعديل والتوسع والتغيير المستقبلي.

لتأتي بعد ذلك مرحلة التشجير والترصيف والإضاءة الديكورية والمساحات الخضراء والحدائق، وهي كلها جزء من هذه المنظومة الحضرية في صناعة المدن، ويكون كل ذلك منسجما ومخطط له مسبقاً مع طبيعة المكان وشكل المعمار والمرافق المرتقبة التي ستزين أفقه.

وإن كانت باريس بعد قرنين من تحديثها لا تزال تحتفظ بألق قلبها، حيث توجد تلك الآثار الهوسمانية، ولم يطلها الانطفاء الذي وصل جل معالمها وأنفاقها، فيما اشتهر اصطلاحا في الدوائر السياحية العالمية بـ"متلازمة باريس" Syndrome de Paris، وهي متلازمة نفسية لها أعراض صحية أحيانا "مثل القيء" تصيب صاحبها بصدمة بعد جراء انكسار صورتها الوردية الرومانسية العطرة في ذهنه بعد امتلاء أنفه بروائح البول والقاذورات في محطات أنفاق الميترو والشوارع وتحت الجسور مع لوثة الفوضى والإهمال والشعبوية وموجات الهجرات القسرية العابرة التي تركت الأرصفة مهترئة والعقول المدنية خانقة ومحدودة الرؤية.

فما بالك بمدينة كنواكشوط لم تعرف التحديث إلا خلال فترة وجيزة في بواكير نشأتها، وطالها الإهمال ردحاً من الزمن، بعضه سياسي وبعضه اجتماعي واقتصادي بسبب هجرات الريف الواسعة التي لم تواكبها مشروعات إسكانيّة طموحة ولا رؤية حضرية حصيفة تنتشل واقع المدينة أو تجمل صورتها أو تحافظ بالصيانة على مرافقها القديمة، أو تؤسس بنية تحتية ترسم وجها معاصرا يليق بها.

ومع ذلك نأمل - والأمل أفق وحياة - أن تنهض هذه المدينة وينهض أهلها لنراها مدينة شابة بهية وعصرية بعد أن شابت أجيال دون أن تعيش تلك الصورة الأثيرة التي تمنح ذاكرة المدن وموجات الحنين الإنسانية المرتبطة بتفاصيل الأماكن في عمرانها وشخصيتها المدينية المتفردة!

محمد بابا حامد

ثلاثاء, 22/04/2025 - 17:19