دولة البرزخ: ما بين التزكية العمياء والحق الأبلج

تابعنا ،فاتح رمضان 1441 ه ،الحلقة الأولى من برنامج "السهرة الرمضانية"، الذي عرف منذ سنوات، ضمن بثّ تلفزتنا الوطنية، ولم يكن لافتا نمط معين من الخطاب، من قبل البعض في العهود السابقة، غير أن بعض إيحاءات خطاب وزير الشؤون الإسلامية، يعطي الانطباع، بالوحل الذي نعيشه في عمق العقلية والممارسة.
فضمن ردوده على بعض التساءالات المتعلقة ببعض القيود الاحترازية، جاء الحديث على تعطيل الجمعة، وتساءل بعض المشاهدين عن مخاطر ذلك، وما قد يجر لاحقا، وفي سياق جواب الوزير، صرح بأن الرئيس طلب رأي العلماء للتطبيق فقط، دون تدخل منه، لكنه أورد قائلا إن "الخلفية الدينية والاجتماعية لصاحب الفخامة والوزير الأول مطمئنة في هذا الاتجاه"، وكأنه يريد القول بشكل شبه صريح، بأن أسرة أهل الغزوانى (....)، وأهل "الشيخ سيديا"، في مأمن من التساهل في شأن هوية الأمة ودينها.
وبغض النظر عن ما قد يدور من الجدل، حول الصوفية (...) ، وآفاقها وجوانبها المضيئة في المقابل، وهي كثيرة طبعا، أي الجوانب الايجابية، بالمقارنة مع المآخذ، أو ما قد يدور حول الاعتراض على موقف بعض أعيان وأعلام أهل الشيخ سيديا، من قضية دخول المستعمر الفرنسي، إلا أن وجه الاعتراض المشروع هنا، أن الوزير الموقر، كان غنيا عن إقحام الأسر، والقبائل، والمجموعات الأسرية، في الشأن العمومي الأوسع مجالا.
فأنت يا معالي الوزير، في برنامج يبث مباشرة أمام الرأي العام، وعبر وسيلة إعلام عمومية، وكان بالإمكان أن تدافع عن موقف نظامك، دون الاتكاء إلى مبررات قد تكون حقيقية وتزيد إقناعا وإفحاما، لكنها لا تناسب مقام شؤون الدولة والبعد العمومي، فربما لم يتجرأ غيرك من الوزراء، أيام معاوية أو ولد عبد العزيز أو غيره، على إقحام شبه صريح، بهذا الشكل، لخلفيات قادتهم الخاصة، الأسرية الضيقة!.
إن مثل هذا الكلام الذي صرحت به مثير للحساسيات المختلفة، و نحن في غنى عنها في فترة محاولة الإصلاح هذه، في ظل حكم يبشر بمحاولات إصلاح جادة ولو تدريجية، لكن للأسف يبدو أن الوحل أعمق من ما قد نتخيل ونتوقع. وعموما لكل جواد كبوة، وكان في النصف الأول من الجواب على أمر تعطيل الجمعة، كفاية عن النصف الثاني المثير بحق، والمشير إلى نقص الحذر، و ربما الوعي،عند بعض من يقود البلد، في مستويات عليا.
و رغم رجائنا أن لا تتكرر مثل هذه الهفوات، التي تعني الكثير سلبيا، في نمط الخطاب وتناول الشأن العام، إلا أن الخلل في الأسلوب والممارسة، في هذا الاتجاه المتعلق بنمط التعامل الإعلامي والسياسي، بموضوع الدولة والشأن العام، ربما يكون، أي هذا الخلل، أوسع نطاقا، لدى الجميع، بمختلف المستويات، الشعبية والرسمية.
فتصريح الوزير المثير للجدل، على رأي البعض، قد لا يقتصر عليه، فالقبلية والجهوية والمناطقية، والخلفية العرقية والمؤسسية (إشارة لانتماء المؤسسة العسكرية)، كل هذا ما زال يمثل عائقا أمام مشروع إقامة دولة المؤسسات في موريتانيا.
وقد يستدعي من البعض هذا الطابع المنافي لقيم الجمهورية الجامعة، الصراخ المشروع، أو الزائد على رأي البعض، خلاف أسلوب هذا المقال، عسى أن يقطعوا الطريق أمام تكريس واقع سلطوي ضيق، منافى تماما للمشروع الجامع.
إن الموريتانيين مدعوون للعمل كل موقعه الرسمي أو غير الرسمي، للجنوح نحو التغيير الشامل الايجابي، "أيد وحد ما أتصفك".
فلا الرئيس ولا الوزير ولا إمام المسجد، ولا الصحفي، ولا المدني دون العسكري أو العكس، تكفي جهودهم الإصلاحية دون الآخرين، فالقرآن أكد أن التغيير يكون عبر جهد جماعي، قال الله جل شأنه "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
نعم نتوق لدولة تكرس العدل للجميع، دون تمييز، على أساس أي اعتبار ضيق، طبقي أو عرقي أو جهوي أو مناطقي أو غيره، كما ترفض هذه الدولة المأمولة، استغلال النفوذ والتلاعب بالمال العمومي، والشأن العام عموما.
وما دام وزير أو غيره، من النخبة بوجه خاص، موالاة أو معارضة، يفهم من كلامه، مثل ما أشرت إليه، فذلك يعني باختصار أن الهدف المنشود ما زال بعيد المنال، للأسف البالغ، يا وزيرنا الموقر.
ولعلها زلة لسان فحسب، أو كما قلت سابقا، لكل جواد كبوة، فقد عرفك المقربون منك، بالعلم النافع والعمل الصالح، وللأسف كذلك لست نشازا في التصور والتأثر بالمفاهيم الضيقة، المنافية لمشروع دولة المؤسسات والإطار الجامع، دون تمييز.
وعموما لم تكن زلة لسانك، إن صدق هذا الإطلاق على رأي البعض خطيرة، في مثل دولة البرزخ الراهنة، فنحن اليوم مع هذا النظام الحالي بدأنا فعلا نستبشر ونتوق للإصلاح ولو كان تدريجيا، لكن نظامنا مازال لم يتجاوز تماما، عقلية التزكية المطلقة للحاكم وما تعلق به.
وبكلمة واحدة، ينبغي أن نسير نحو أفق يشعر الحاكم، بأنه يحمل أمانة ثقيلة، يخافها أكثر من ما يبتهج بها، بل قد يصرخ ويقول في قرارة نفسه، ليتني لم أتولى شيئا من أمر الناس، فالمسؤولية تكليف قبل أن تكون تشريفا، ومحبتها والحرص عليها في الأغلب الأعم، دليل حماقة وجهل محض، لخطورة الأمانة وثقلها، دنيا وآخرة، عند المحاسبة، وسواء كانت تلك المحاسبة دنيوية، أوأخروية بوجه خاص.
قال الله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا".
ترى معالي الوزير الطيب هل نصل يوما إلى مرحلة يهرب فيها الناس من المسؤولية العمومية، كما رفض بعض قضاتنا في العهود الإسلامية الزاهرة وظيفة القضاء.
وإن كان ثمة حالة استثناء، بالنسبة للقوي الأمين، على غرار طلب يوسف عليه السلام، لوظيفة المالية في دولة العزيز بمصر، قال الله تعالى: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ".
ونرجو من الله أن نسير مع رئيسنا الحالي، ومعك معالي الوزير الطيب، وغيركم من منظومة النخبة الموالية والمعارضة، والشعب الموريتاني الطيب العزيز المتسامح الذكي، نحو دولة الحق الأبلج يوما ما، بإذن الله.

اثنين, 27/04/2020 - 20:20