"الحراطين" إبرة الميزان

إنه لمن المسلّم به اليوم أن مكونة "الحراطين" تمثل ركيزة أساسية لاستقرار موريتانيا، إذ بموقعها الوسطي يمكن أن تتحقق المصالحة الوطنية التي ينشدها شعب يتوق إلى العدالة والوئام والنمو والاستقرار، على الرغم من استمرار وطأة الإرث الثقيل للتراتبية الاجتماعية ونظام الطبقات الذي ولى زمنه.

وعلى الرغم كذلك من استمرار آثار العبودية الخفية، يجسد أفراد هذه المكونة مثالًا يحتذى في الحكمة وسعة الصدر وضبط النفس، في حين فقد كثيرون هذه القيم خلال هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد.

إن انتماء "الحراطين" إلى أمة توحدها رسالة الإسلام وحب الأرض الموريتانية، يشكل تمازجًا ناصعًا بين العروبة والإفريقية في هذا الوطن الذي يمثل معبرًا للقاء وتلاقح الحضارات.

وعلى غرار مارتن لوثر كينغ، الذي حمل لواء الكفاح السلميمن أجل الحقوق المدنية للسود الأمريكيين بشعار "لدي حلم"، يجدد "الحراطين" اليوم مطالبتهم المشروعة بحقوقهم كاملة كمواطنين، متسلحين بالكرامة والعزم والإصرار.

ولقد حافظت هذه المكونة، في كل مراحل نضالها المتواصل من أجل التحرر والكرامة، على حكمة توارثها أفرادها عبر الأجيال منذ فجر استعبادهم المشين، حيث غذّت الإنجازات المحققة على طريق استعادة الكرامة، الأمل بميلاد موريتانيا متصالحة مع ذاتها وماضية، ومقبلة بثقة على مستقبل قوامه المساواة التامة بين جميع مواطنيها.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشادة بالدور الجوهري الذي اضطلع به رواد النضال ضد العبودية منذ فجر الاستقلال الوطني، سواء من الشخصيات البارزة أو المناضلين المجهولين، والذين بقيت تضحياتهم حاضرة في وجدان الأمة. وقد تجلت معالم هذا النضال في:

-         النصوص الدستورية الأولى للجمهورية، التي نصت بوضوح على المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات؛

-         الإلغاء الرسمي للعبودية خلال الحكم المدني للرئيس المختار ولد داداه؛

-         إعادة التأكيد على هذا الإلغاء في عهد الحكم العسكري بقيادة الرئيس محمد خونا ولد هيداله؛

-         المواقف الصريحة للحركات السياسية الوطنية بمختلف توجهاتها (الكادحون، القوميون العرب، والقوميون الزنوج الأفارقة)؛

-         الجهود الحثيثة التي بذلتها الجمعيات والمنظمات المدنية المناهضة للعبودية؛

-         بيانات الحركات التحررية مثل حركة "الحر" ومنظمة "نجدة العبيد"؛

-         العرائض والبيانات المناهضة للتمييز العنصري والعبودية؛

-         المبادرات الحاسمة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى رأسها جهود "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية" (إيرا).

إن الحلم الذي رفعه مارتن لوثر كينغ وسط ظلمات التمييز العنصري والعنف العرقي الذي مارسه تنظيم "كو كلوكس كلان"، هو ذات الحلم الذي يتجدد اليوم في نفوس كل الموريتانيين المؤمنين بالعدالة والكرامة الإنسانية.

وكما حلم القس الأسود بأن يرى طفلًا أسود وطفلًا أبيض يجلسان معًا على مائدة واحدة، مرددًا "نعتبر هذه الحقائق بديهية، أن جميع الناس خُلقوا متساوين"، ينبغي على الموريتانيين أن يحلموا بمجتمع موحد، تسوده العدالة والمساواة. وقد تحول ذلك الحلم، الذي صرح به مارتن لوثر كينغ أمام الآلاف من مناصريه عند نصب لنكولن التذكاري في واشنطن يوم 28 أغسطس 1963، إلى شرارة لكفاح سلمي مستوحى من نضال المهاتما غاندي الذي قاد الهند إلى الاستقلال وناصر قضية "المنبوذين".

ورغم التنظيم الاجتماعي القائم تاريخيًا على الفئات والطبقات في المجتمع الموريتاني، فإن الإسلام، بما يحمله من قيم سامية، حال دون انقسام المجتمع على أسس طبقية جذرية، مؤكدًا أن معيار التفاضل بين البشر إنما هو التقوى والعمل الصالح.

واليوم، أكثر من أي وقت مضى، لم يعد حلم المساواة لـ"لحراطين" أمنية مشروعة فحسب، بل غدا ضرورة تاريخيةلا مناص منها. إذ تشهد التجارب الإنسانية بأن وراء كل حلم عظيم إنجازًا عظيمًا:

ففي الهند، تحقق حلم غاندي، وأصبح أحفاد "المنبوذين" جزءًا فاعلًا في المشهد السياسي والاقتصادي والعلمي للبلاد؛

وفي موريتانيا، ينبغي على جميع المواطنين أن يتطلعوا إلى مستقبل موحد مزدهر.

ولتحقيق هذا المستقبل المنشود، ألا يجدر بنا أن نستند إلى القيم الجامعة المانعة للإسلام وعدله وسماحته وأن نستلهم حلم مارتن لوثر كينغ، ونستبصر بنهج السلم الذي انتهجه غاندي ونيلسون مانديلا وكل دعاة السلام والوئام؟

وإنه وحده السير بثقة وعزم على هذا الطريق الكفيل بأن يمنح أمتنا حاضرًا مشرقًا ومستقبلًا زاهرًا، يسوده العدل والسلام والنماء.

ثلاثاء, 29/04/2025 - 13:12