
الصورة التي عششت في أذهاننا عن انقلاب 1978 وترسخت مع مرور الزمن، هي أن طغمة عسكرية متهورة، مسكونة بحب السلطة، انقلبت على نظام مدني مسكين،
ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن واحدا من المبادئ الأساسية التي حملها معهم العسكريون، في ذلك الصباح الرطب الطويل من يوليو تموز، المفعم برائحة المطر القادمة من الجنوب، وهم في طريقهم إلى القصر البني وقتها، قبل أن يصبح لونه رماديا فيما بعد، هو العودة إلى الحياة الديمقراطية والتعددية الحزبية، التي سرقها ذلك النظام "المدني المسكين" من الموريتانيين، ذات ضحى وهم ينظرون،
كان العقيد المصطفى ولد محمد السالك رجلا مخلصا للغاية وكان على قناعة تامة بأن العسكريين حين يمضون وقتا طويلا خارج الثكنات يزيد وزنهم ويخسرون الكثير من لياقتهم.
لم يكن وجه الشبه الوحيد بين انقلاب 1952 في مصر وانقلاب موريتانيا سنة 1978، هو أن كلاهما حدث في يوليو تموز، بل كما كان لانقلاب مصر شخصية محورية اسمها محمد نجيب كان لانقلاب موريتانيا هو الأخر شخصية محورية تدعى المصطفى ولد محمد السالك، فالرجلان آمنا حتى اللحظة الأخيرة، بأن على العساكر العمل على إعادة الأمور الديمقراطية إلى نصابها والرجوع فورا إلى ثكناتهم.
عمل ولد محمد السالك ومنذ الوهلة الأولى على تشكيل هيئة استشارية تضم شخصيات من كل ولايات الوطن، يعهد إليها الإشراف على مسار عودة التعددية الحزبية والحياة الديمقراطية، ورغم العراقيل الكثيرة التي اصطدم بها، فقد عمل الرجل جاهدا حتى رأت تلك الهيئة النور وعقدت اجتماعها الأول، لكن كما كان من بين عسكريي مصر متعطشون للسلطة هم الذين أرسلوا محمد نجيب ومشروعه السياسي إلى النسيان، كان أيضا من بين عسكريي موريتانيا من هم أكثر تعطشا للكرسي الوثير، تآمروا في الظلام حتى اغتالوا ذلك الحلم الجميل.
قام بعض العسكريين وقتها بالإيعاز إلى ممثلي ولاية اترارزه والضفة، بالاحتجاج على مستوى تمثيلهم في تلك الهيئة لإفشالها، كما اتفقوا مع ثلة من اليساريين، على إصدار بيان ضد تشكيل الهيئة وأنها لا تمثل أولية بالنسبة للبلاد.
سبحان الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، أما زلتم تذكرون "الكتيبة البرلمانية"، التي كانت وراء انقلاب 2008، نفس السيناريو الرديء، والخلاصة أن كل الانقلابات التي حدث في هذا البلد تقدمها المدنيون قبل العسكريين.
في ابريل 1979 سيحدث انقلاب داخل الانقلاب، يرسل ولد محمد السالك إلى التقاعد المبكر، سيعاني الرجل الأمرين، وسينساه الموريتانيون بسرعة كعادتهم، وسيعيش بقية حياته في صمت بعيدا عن السلطة، متحسرا على وطن، يبدع دائما، حين يتعلق الأمر بإضاعة الفرص..
البشير عبد الرزاق