كنت في دراسة موسعة نشرتها في مجلة آفاق الثقافة والتراث موسومة بشعر نساخ المخطوطات قد ضمنتها فقرة عن نساخ المخطوطات في بلاد شنقيط، وهنا في هذا المقال أصبو إلى أوضح للقارئ بعض جوانب ذاك اللون الطريف من الأشعار، حيث أن الساحة الثقافية لا تلتفت إلى هذا اللون من الشعر، على الرغم من أنه يشكل طرفا مهما من ثقافة هذا البلد، إلا أن صعوبة جمعه تحول بينه وبين المثقفين، إذ لا يهتم به إلا ذوو الخبرة في دراسة علم المخطوطات، والصبر عليه.
ويوجد هذا الشعر في الورقة الأولى(الظهرية) أو الأخيرة(الغاشية)، وهتان الورقتان قلما توجد في مخطوطة إلا تلك التي حفظت حفظا دقيقا، وسلمت من الآفات التي تصيب المخطوط، وبحكم معايشتي لآلاف مخطوطات بلاد شنقيط، فإن الكثرة المطلقة تفتقد الصفة الأولى، أو الأخيرة، وعليه فإن الباحث لن يظفر بما يبحث عنه بسهولة، فعليه التروي ومتابعة تصفيح المخطوطات حتى يجد ضالته.
إن هذا اللون من الشعر يمتاز ببعض القضايا التي يعرضها الشاعر وهو في الغالب شاعر مجهول بمعنى، أن الدارس ينكب على مضمون الأبيات دون بحث عن صاحبها، وسيجد لونا من المضامين لها علاقة بالكتاب وكتابته وخطه، والدعاء للناسخ، وعدم التعرض له بسوء، وغيرها من القضايا، وسنقدم هنا بعض النماذج لنطلع القارئ عليها ونترك له الباب مشرعا في البحث والتنقيب، وإطلاق الأحكام النقدية، وإعطاء القيم لذاك اللون من الشعر.
فمن جملة تلك القضايا ما سجل بعضهم كأنموذج فريد لسلسلة نسبه على الورقةالأخيرة من مخطوطته. هذا ما نلاحظه عند نساخ مدينة شنقيط ووادان التاريخيتين. وعلى ما قلناه نثبت المثال التالي من أحد نساخ مدينة وادان وهو أحد الشرفاء منهم..، وجاء ذلك في مختصر جميع تعريفات الفنون على الحروف السيد الشريف علي بن محمد المنسوخ سنة 1012هـ في واسط. في يوم جمعة في وقت بين صلاتينمن شهر محرم الحرام. ثم أثبت الناسخ البيتين التاليين في تقريظ الكتاب ومدحا لمؤلفه:
طُوبَى لكَنز العلم سيد دهْـره صِنفُ العلُوم بدَا بتصْنيفَاتِه
قَدْ كَانَ سِرًا مُبهَمًا بَينَ الوَرَى عُرِفَتْ فَضَائِلُهُ بِتِعْريفَـاتِه
وبعدهما صاغ سلسلة نسب الأسرة الشريفة الكريمة. وهذه النسخة تم نسخها من النسخة السابقة المنسوخة في مدينة واسط، وكان ذلك قبيل العصر يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم أول سنة 1227هـ وبعد أن أثبت تاريخ النسخ، أشفعه بالبيتين التاليين:
وَمَا منْ كَاتِبٍ إلاَّ سَيفْنَى ويُبقِى الدَّهْرُ مَا كَتبتْ يَدَاهُ
فَلاَ تَكْتُبْ يَمِينُكَ غَيرَ خَطٍّ يَسُرُّكَ فِي القِيَامَةِ أَنْ تـــَراهُ
ومن الإضافات التي أضافها نساخ بلاد شنقيط، شعرهم في مدح بعض من الممدوحين رجاء في تلبية طلب معين غاية في الأهمية والتقدمة يقول أحدهم:
إلى غايةِ الحسن التَّلِيدِ تـــــــــــــــــــحيـة تفُوقَ نَسيمَ المِسكِ أَحـــــلَى وأَطْيــــــــــبُ
من العَسْل والكَافورِ كالنَّجم تُزْهِـرُ تزين منها الأرضُ من ذَاكَ أَعْجَـــبُ
إلى آل العلْوي أَكرَمُ مَجْدِهِـــــــــــــــــــــــــم لَقدْ طَابَ منه الأَصلُ والفَرعُأَطْيَـــــبُ
أخُصُّ بنِي الخَرْشِ الكَريمِ المُمَجَّدِ لدَيـهِ فُنُونُ الشَّرعِ تَحْيى وتُنصــــــــــــــــــبُ
نُخَصِّصُ غَوثَ الكُونِ مِنْهُم مُحَمَّدَا ومَدْعُو عُبيد اللهِ اسْمٌمُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَكَّبُ
ولِي عِندَكُم نَجلُ الأَكَارِمِ حَــــــــــــــــــاجـَةٌ وَحَسْبِي بِهَا مَا دُمْتُ فِي العُمْرِأَرْغَبُ
زِيارَةُ قَبرِ الهَاشِمي محمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد عَليهِ سَلامُ اللهِ مَا دَامَكَــــــــــــــــــــــــــــــــوْكَـبُ
وتظهر فكرة الحسد، من بين القضايا المهمة، وهو شعور بارز عند النساخ في هذه المنطقة خوفا منه ومن هنا اختار الناسخ هذا المعنى في البيتين الأولين.
يَا نَاظِرًا فِيهِ إنْ ألْفَيتَ فَائــدَةً فَاشْكُرْ عليهَا ولا تَجْنَحْ إلَى الحَسَـدِ
وإنْ عَثرتَ لَنَا فيه علَى خَطأ فَاعذَر فلَسْت بِمجْبُولٍ علَى الرُّشْـــدِ
وبعضهم تتجه عنايته إلى ما له علاقة بالنظرة الصوفية للأمور، وهذه أبيات ترصد ذاك المنزع:
إذا ما علِمْت الأمرَ أقْرَرْت علْمَه ولاَ أدَّعِي مَا لَسْتُ أَعْلَمُه جَهْلاَ
كَفَى بِامْرئٍ يومًا يقُول بِعلْمِـــــــــــــه ويَسكُتُ عما لَيسَ يَعلَمُه فَضْلاَ
ولا نريد أن نسترسل، فنشق على القارئ، فالقصد هو إثارة الموضوع، ضمن إعلامنا، وشد الأنظار إليه، وهذا مقصدنا في كل ما ندونه هنا من معلومات قد تكون غائبة عن البعض، وإظهارها في الإعلام يعطي للبحث دفعا، ويساعد الباحث في تقديم رؤاه في موضوعات لا تظهر إلا للباحث المخصص.