في مؤتمره الصحفي الأخير قال وزير التعليم العالي الناطق باسم الحكومة إن الإضرابات أصبحت لعبة؛ لدرجة أن المضربين لايولون أي اهتمام لوضعيتهم القانونية ولا للظروف الصعبة التي يمر بها البلد " .
وقد سبق لي أن تناولت ظاهرة الإضرابات المُسيسة في مقال بعنوان: "الاحتجاجات من العاطفية إلى التسييس"؛ نبهت فيه إلى ظاهرة الإضرابات التي شهدها البلد خلال مراحل مختلفة من تاريخه؛ مركزا على قطاعي التعليم والصحة في زمن الجائحة ..فقد تزامن مثلا إضراب مقدمي خدمة التعليم مع إضراب خريجي المدرسة الوطنية للصحة الذين تكونوا على حسابهم الخاص؛ في محاولة منهما لإرغام الوزارتين (التعليم والصحة) على اكتتابهم بصورة خارجة عن القانون .
فمن المعلوم أن دخول الوظيفة العمومية يتم عبر مسابقة تحددها الوزارة الو صية بالتنسيق مع وزارة الوظيفة العمومية؛؛ ويتم الإعلان عن شروطها في بلاغ يُذاع في وسائل الإعلام الرسمية..
المشكلة أن ثمة خلطا في المفاهيم رمت به السياسة ؛بأدواتها المختلفة؛ بين مفهوم النضال والإضراب؛ فعدم وجود مسافة فاصلة بين المفهومين أدى بكثيرين للانخراط عن قصد وربما بعفوية تحركها العاطفة في كل الدعايات المسوقة للإضرابات؛ بغض النظر عن قانونيتها؛ وما يترتب عليها من أضرار على المضربين بصورة خاصة وعلى المجتمع بشكل عام.
ظاهرة الإضرابات المسيسة التي دفعت بها أنساق معينة لتصبح موضة؛ تجعل من المهتم يحاول تتبع أسبابها وانعكاساتها على مصالح العباد والبلاد؛ وقبل سرد الوسائل والمنهج المستخدم في ذلك ؛ لابد من الإشارة إلى أن قطاع التعليم يحتل المرتبة الأولى؛ من حيث عدد الإضرابات التي تنظمها كل النقابات في البلد؛ ؛سواء في القطاع العام أو الخاص؛ فلايكاد يمر فصل من السنة الدراسية دون تنظيم إضرابات لنقابات التعليم،
المفارقة أن هناك علاقة عضوية بين إضراب المدرسين وبين الإرادة الجادة للإصلاح ..فهل يتعلق الأمر بتعويل أصحاب التعليم على الكفاءة والمهنية اللتين تميزان وزير التهذيب الحالي ؛ الأمر الذي جعلهم يرفعون سقف المطالب التي يريدون تحقيقها ؛ أم أنه مجرد نهج لاستخدام وسائل التشويش المتاحة لعرقلة كل سعي جاد لوضع قطاار التعليم على مساره الصحيح؟.
في محاولة لفهم الأسباب والدوافع الحقيقية الفاعلة في رفع مؤشرات التصعيد ضد إستراتجيات وزير يعتمد مقاربة المدرسة الجمهورية لانتشال منظومتنا التربوية من قاع الحضيض ؛ اعتمدت خلال الأسابيع الماضية على ما يسمى "بالاستمارات الشفهية"؛ وأخذت عينات من آراء المنظرين لإضراب مدته أربعة أيام ابتداء من 22\03\2021؛ والمتعاطفين معهم ورأي أولياء الأمور في هذا الموضوع خاصة في الأحياء الفقيرة.
كانت الأسئلة الموجهة لحملة الطباشير تحاول بموضوعية فهم الأسباب التي دفعتهم للتفكير في التوقف عن التدريس في وقت حساس من السنة ؛ لذلك ركزت على ثلاثة محاور تم اختيارها بعناية لتستجيب للإشكالات التي يطرحها المدرسون وآباء التلانيذ؛ وكل منظمات المجتمع المدني الفاعلة في العملية التروبية؛ ورتبتهها حسب الأهمية كمايلي:
لماذا الإضراب في هذا الوقت بالذات؟ وماهي الأهداف المنشودة منه؟
وهل أخذتم بعين الاعتبار الأضرار التي ستلحق بالدولة والمجتمع جراء قرار هكذا؟ .
معظم الإجابات على السؤال الأول ركزت على تحسين وضع المدرسين وصعوبة الظروف مستشهدين بمقال Bakari Guèye الذي تم تداوله مؤخرا على نطاق واسع في مجموعات الأساتذة والمعلمين على تطبيق الوات ساب وفيسبوك والمعنون ب: Un professeur dans l’antichambre de la mendicité.
صحيح أن الوضع المادي للمدرسين يحتاج للمزيد من التحسين؛ رغم كونه الأفضل مقارنة بوضع غالبية موظفي الدولة.
لم تكن الإجابة على السؤال المتعلق بالأهداف بنفس الوضوح الذي ميز سابقتها ؛ فالضبابية التي تحول حول مفهومي النضال والإضراب انعكست بشكل أو بآخر على نوعية الإجابة التي أظهرت لغة الجسد قبل الكلمات أنها غير مقنعة لأصحابها؛ فهناك من اعتبر أن الإضراب بحد ذاته نضالا ضروريا تفرضه المرحلة ؛ بينما ذهب آخرون إلى أن الأمر يتعلق بسياسة لي الأذرع ضمن حسابات لا تخلو من السياسة التي قد لا تتقاطع بالضرورة مع مصالح المجتمع .
ثمة من يختصر الأمر في ركوب موجة مرحلية عادة ما يستغل أصحابها تسويق الشغب تحت عناوين مختلفة سعيا للحصول على امتيازات بعينها.
لقد اتفقت معظم الإجابات على السؤال الأخير على غياب رؤية تأخذ بالحسبان الأضرار التي قد يلحقها الإضراب بمصير أجيال حالمة بمستقبل أفضل؛ خصوصا وأنه في آخر الفصل الثاني من سنة كان فصلها الأول عطلة معوضة .
المؤسف أن الجميع -تقريبا- متمسك بنظرية البقرة وعجلها؛ مع الإصرار على أن الأولوية في الوقت الراهن للمدرس قبل التفكير في أي شيء آخر.
لايسعفنا مقال كهذا في تتبع المنهج المعروف في تفريغ الاستمارات وتحليل محتواها؛ لذا سنقتصر على سردها بطرق مبسطة كي يستطيع القارئ الوصول للاستنتاج بأدواته الخاصة.
لم يخف أولياء الأمور انزعاجهم من أساليب بعض المدرسين؛ وهو أمر بدا واضحا من خلال إجاباتهم على الأسئلة التي تضمنتها الاستمارة من قبيل .أليس من الإنصاف التعاطف مع المدرسين في إضرابهم؟
وهل الوضع المادي للمدرس هو السبب في تدني المستويات؟
أم أن هناك مبالغة لجلب تعاطف المجتمع معهم؟.
رغم كوني حاولت تجنب الأسئلة ذات الطابع الاستفزازي؛ إلا أن الإجابات كانت متشنجة في معظمها؛ فقد قاطعني الكثيرمن الأباء قائلا؛ عن أي وضع تتحدث هناك بعض الأساتذة والمعلمين الذين يتقاضون رواتب ضعف ما يتقاضاه أساتذة التعليم العالي؛ فهل تعلم أن استنزاف الدروس الخصوصية؛ لموارد عوائل تسبب في تفكيك أسر عديدة؛ تماما كما أدى إلى تسرب أعداد مخيفة من التلاميذ .
بخصوص الوضع المادي نفى معظم المستطلعة آراءهم أن يكون هو السبب الحقيقي للإضرابات؛ معللين ذلك بأن المدرس (في التعليم الأساسي والثانوي)؛ هو وحده الذي يمارس أكثر من مهنة في وقت واحد؛ دون أن يدفع الضرائب؛ فهو بحسبهم يتلقى راتبا من الدولة ومن التعليم الخاص؛ وفي الآن ذاته يزاحم أصحاب التاكسي في مهنتهم وبائعي بطاقات التزويد.
بعض الزملاء المتقاعدين يرى بأن الحديث عن تحسين مستويات التلاميذ غير وارد ؛في ظل استنزافهم بهذه الطرق التي ستنعكس على تحصيلهم بالضرورة.
حاولت لملمت أوراقي لأنهي موجة النقد الحاد لزملاء المهنة؛ في سباق مع الزمن؛ قبل سقوط قناع الصحفي الذي يبحث عن الحقيقة فقط.
لكن ذلك لم يمنعهم من محاولة إرغامي على الجلوس ليرددوا وبأصوات مرتفعة- في آن واحد- أن الحقيقة -من وجهة نظرهم- هي: "أن الإضرابات الآن مجرد موضة بأزياء السياسة والضحية هم التلاميذ وأسرهم" .
هذه الصورة جعلتني أفك شفرة المفردات الثلاثة ( النقابة، التعليم، الإصلاح ) التي هي في الحقيقة مفاتيح لغز محير صار بالغلبة مرادفا لكلمة إضراب الملازم بطبعه لنوع من العنف الصامت؛ الذي يمارسه مربو الأجيال ضد مجتمعهم؛ غير آبهين بما سيلحقه ذلك من أضرار بالغة بوطن مكلوم.
د. أمم ولد عبد الله