
لطالما كانت أحياء نواكشوط تعبيرا عن هوية اجتماعية جامعة، تُنسج من ثنايا وتفاصيل العيش المشترك، من العواطف الانسانية العابرة للانتماء، من الأرصفة التي كانت شاهدة على ضحكات الطفولة واحلام المراهقة. لم تكن القبائل والأعراق موضوعا للحديث اليومي، بل كان الحي هو الوطن الصغير الذي نعيش فيه وننتمي إليه دون أسئلة ثقيلة عن الأصل والفصل.
قبل أن يطرأ التغيير العنيف الذي جلبه "الغزو البدوي" على المدن، كان الناس يُصنفون حسب أحيائهم. وكان لكل حي سِمَته وسلوك أبنائه. من ترعرع في "سينكييم" لم يكن يشبه من نشأ في "لكصر" أو "توجنين". وكان هذا التصنيف، على محدوديته، منطقيًا لأنه نابع من تجربة معيشية لا من تعصب أعمى أو انتماء جامد.
شكل الحي بديلاً عن "الفريگ" التقليدي، والانتماء إليه يتجاوز اللون والأصل. في تلك الأيام، خضنا المعارك الصغيرة "الارميهات" بإسم الحي وبشهامة الأخوة، لا نعرف عن بعضنا أكثر من أننا أبناء نفس الزقاق ونتقاسم ذات الحلم ونشرب من نفس الحنفية. كانت القبيلة والاعراق تغيب، وكانت الإنسانية تشرق.
لكننا سرنا أو سير بنا عكس عقارب الزمن. صار الطفل في ابتدائية اليوم يميز القبائل أكثر مما يميز الحروف، ويُجيد فرز الأصدقاء حسب الجهة والعرق أكثر مما يجيد الجمع والطرح. السؤال الأول الذي يُطرح الآن على أي غريب ليس عن اسمه أو مهنته، بل عن قبيلته، وكأن ذلك وحده كافٍ للحكم عليه أو تصنيفه ضمن خانة مسبقة.
ومنذ أن دخلت الديمقراطية بصيغتها المحلية حياتنا، صار الانتماء سلعة، وسوق السياسة يعرض الولاء لأعلى مزايد. تحول التصويت إلى صك بيعة، وتحولت القبائل والأعراق إلى "أحزاب ظل" تُستخدم لحشد الأصوات، لكنها لا تمنح لأبنائها شيئا سوى الوهم والانتظار.
متى يفهم الطارئون على المدينة، وعلى قيمها الحديثة، أن تصنيف الناس على أساس قبلي لا يعد فقط ظلما للقبيلة، بل ظلما للفرد ولمفهوم المواطنة؟ ومتى يستفيق الذين يتصدرون الصفوف دفاعا عن مجد قبلي زائف أو حمية عرقية مزعومة، ليدركوا أنهم آخر من يستفيد من لعبة الانتماءات الضيقة، وأكثر من يدفع ثمنها؟
الوطن لا يُبنى من قطعان، بل من مواطنين. والحضارة لا تنمو في ظل القيد، بل في فضاء الحرية والانتماء الإنساني الصادق.