قصة المنجم الذي سيغير مستقبل السوق العالمي لخامات الحديد

يقع المنجم الذي نتحدث عنه في جنوب شرق غينيا، على بعد حوالي 650 كيلومترًا من العاصمة كوناكري في سلسلة جبال سيماندو، ويعود اكتشافه إلى سنة 1898 إبان حقبة الاحتلال الفرنسي للبلد، ويحتوي على أغنى وأكبر رواسب خامات الحديد غير المستغلة في العالم، ورغم اكتشافه المبكر إلا أن بداية تشكل قصته يعود إلى نهاية القرن العشرين وبالتحديد سنة 1997،حيث حصلت شركة سيمفر Simfer S.A. التابعة لشركة ريو تينتوعلى ترخيص استكشاف لأربعة مناطق من المنجم بمساحة إجمالية تبلغ حوالي 1480 كيلومترمربع، وكانت بذلك الشركة الوحيدة التي تمتلك تراخيص للتنقيب في سيماندو؛ وبعد 3 سنوات أرجعت حوالي50% من المساحة مع تمديد الترخيص لها لمدة عامينوبحلول عام 2002 انتهت فترة حقوق الاستكشاف، ورغم عدم تقدم الأعمال إلا أن الحكومة الغينية قامت بتمديد الترخيص لها مرة أخرى لمدة عامين لكن شركة سيمفر لم تقم أيضًا بأي أعمال ملموسة، وبعد ذلك وخلال سنة 2006 تولت شركة ريو تينتو بنفسها حقوق الاستكشاف، وحصلت على امتياز لمدة 25 عامًا.

 

(1)

 

الاحتكار والإخراج من المنافسة

 

مع أن دخول العملاق ريو تينتو كان مبكرا إلا أن الأموربقيت على حالها دون تطوير، حيث أنه خلال حوالي عشر سنوات من 1997 حتى 2008 تم تنفيذ 6 آبارحفراستكشافية في القسم الشمالي من المنجم الذي يشمل المنطقتين (1و2) وفي اعتقادنا هناك ثلاثة أسباب رئيسية قد تكون وراء تلكؤ ريو تينتو في تطوير واستخراجخامات سيماندوالغنية. السبب الأول يعود إلى الارتفاع الكبير في أسعار خام الحديد في السوق الدولية خلال تلكالحقبة، حيث كانت الشركات العملاقة في مجال خام الحديد تسعى للحفاظ على أرباح احتكارية مرتفعة، مما يجعل عدم فتح مناجم جديدة كبيرة وسيلة أساسية لمنع انخفاض الأسعار الناتج عن استثمارات أخرى، أما السببالثاني فيتعلق بغياب البنية التحتية في منطقة المنجم، مما يتطلب استثمارات ضخمة لإنشاء سكة حديدية وميناء، وهذا يحمل مخاطر استثمارية ضخمة، أما السبب الثالث فيتعلق بقطع الطريق أمام الصين وغيرها من البلدان الصاعدة وحرمانهم من الوصول إلى هكذا موارد والمناورة بها من أجل التحكم في الأسعار بل حتى المساهمة في تغيير آلية تسعير المادة الخام المصدر الحقيقي الأرباح الطائلة.

 

(2)

 

الانقلابات العسكرية والصفقات الضخمة

 

خلال نهاية سنة 2008 وبعد ساعات من الإعلان رسميا عن وفاة الرئيس الغيني  لانسانا كونتي أعلن عن تشكيل "المجلس القومي للتنمية والديمقراطية" لإدارة شؤون البلاد، وفي اليوم الموالي عين النقيب موسى داديس كامارا رئيساً جديدا للبلاد، وخلال نفس العام أعربت حكومة غينيا عن استيائها الشديد من شركة ريو تينتو،وبحجة عدم بذل الجهود اللازمة للتنقيب استعادت الحكومة حقوق التعدين في الجزء الشمالي من منجم سيماندو الذي يشمل المنطقتين 1 و2، وكذلك منجم زوغوتا للحديد الأصغر، وخلال ديسمبر من نفس العام حصلتشركة بي أس جي (BSG Resources) المملوكة لرجل الأعمال ملياردير مناجم الألماس بيني شتاينميتز الذي يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والفرنسية على الحقوقالتعدين للمنطقتين (1 و2) مقابل استثمار بنحو 160 مليون دولار. وبعد دخول شركة بي أس جي على الخط بدأت في إجراء عمليات الاستكشاف وبحلول يونيو 2010، أكملت 94 بئرًا بعمق إجمالي يبلغ 15864 مترًا، وقدمت تقرير دراسة جدوى؛ وبعد مراجعة الحكومة الغينية منحتها رخصة الإستغلال، وبعد مرور 18 شهرا، باعتشركة بي أس جي نصف أسهمها  لشركة التعدين البرازيلية فالي مقابل 2.5 مليار دولار محققة أرباحا ضخمة، وعرفت الصفقة التي بلغت حوالي 40% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي الغيني في الصحافة الماليةالدولية حينها "بالفوز بالجائزة الكبرى". الصفقة التي جعلت من شركة فالي طرفًا في النزاع حول ملكية المنجم،حيث تم التشكيك في شرعية نقل ملكية الجزء الشماليللمنجم من شركة ريو تينتو إلى شركة بي أس جي مع  اتهامات بأنها حصلت على حقوق التعدين بواسطة رشوة المسؤولين الغينيين، وفي هذا الإطار رفعت شركة ريو تينتو دعوى قضائية في الولايات المتحدة متهمةً شركة فالي بسرقة الأسرار التجارية والرشوة. تجدر الإشارة إلى أن شركة بي أس جي مسجلة في جزيرة غيرنسي التي تستقطب العديد من الشركات كملاذ ضريبي.

 

(3)

 

الفساد والنزاعات حول ملكية المنجم

 

بعد ما بات يعرف بمذبحة سبتمبر 2009 التي أدت إلىقتلت أكثر من 150 شخصا تجمعوا في مظاهرة معارضة للمجلس العسكري الحاكم، وكذلك إطلاق النار علىالرئيس، حملت سنة 2010 أملا جديدا لغينيا مع وصولالرئيس ألفا كوندي عقب أول انتخابات قيل أنها ديمقراطية، حيث بعد فترة وجيزة من انتخابه أصدر أمرابإجراء تدقيق في قطاع التعدين، كما قام بتوظيف خبرة أجنبية دولية، وخلال نفس العام وقلقًا من إمكانية استعادة حكومة غينيا حقوق تعدين في الجزء الجنوبي من المنجم بسبب تأخير التطوير وقعت مجموعة ريو تينتو اتفاقية تطوير مشتركة مع شركة الألمنيوم الصينيةالمحدودة المعروفة باسم تشالكو وقامت بنقل 47% من حقوق الملكية في الجزء الجنوبي من منجم سيماندو بسعر 1.35 مليار دولار إلى العملاق الصيني، وخلال عام 2011، دفعت شركة ريو تينتو 700 مليون دولار للحكومة الغينية من أجل الاحتفاظ بحقوق التعدين في المنطقتين (3 و4 ) الجزء الجنوبي من المنجم.

وخلال عام 2014 بدأت الحكومة الغينية تحقيقًا في قضية الرشوة المتعلقة بمنجم سيماندو وخلصت إلى أن حقوق التعدين للمنطقتين 1 و2 في الجزء الشمالي من سيماندو حصلت عليها شركة بي أس جي من خلال استخدام الرشوة، وعلى ذلك الأساس ألغت الحكومة جميع الامتيازات التجارية لتعدين خام الحديدلشركتي فالي و بي أس جي في الجزء الشمالي من المنجم. وخلال 2015 ردت شركة بي أس جي بأن موضوع الرشوة كان إفتراء وطالبت باستعادة حقوق الترخيص وتعويض الأضرار، وبين عامي 2016-2017 تم اعتقال بيني شتاينميتز أغنى أغنياء إسرائيل، ومالك شركة بس إي جي مرتين في إسرائيل بتهمة رشوة المسؤولين الغينيين، كما تمت محاكمته خلال 2021 في سويسرا،وأصدر القضاء حكما عليه بالسجن لمدة خمس سنوات،بتهم الفساد وتزوير وثائق على خلفية صفقة التعدينالغينية التي باتت تعد من أكبر قضايا الفساد الدولية،حيث أظهر التحقيق دفع رشاوى للرئيس لانسانا كونتيوزوجته الرابعة مامادي توريه بقيمة ملايين الدولارات.

 

(4)

 

وساطة الرئيس الفرنسي الأسبق

 

ليست مفارقة بأي حال، أنه خلال عام 2014 وبالتزامن مع إلغاء رخص الاستغلال الخاصة بشركة بي أس جي بدأت عملية برخان العسكرية، كما تم إنشاء مجموعة دول الساحل الخمس في محاولة أخيرة لفرنسا من أجل إعادة توجيه بوصلة طموحاتها لتبقى دولة عظمى في العالم الجديد اعتمادًا على إعادة تشكيل منطقة الغرب الإفريقي انطلاقا من وسائل عسكرية، واقتصادية، ودبلوماسية. وفي فبراير 2019، وبوساطة من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، توصلت شركة بي أس جي إلى اتفاق مع الحكومة الغينية، حيث وافقت الشركة على التخلي عن المنطقتين 1 و2 في الجزء الشمالي من المنجم، مقابل إسقاط تهم الفساد والقضايا القانونية ضد بيني شتاينميتز وشركته في غينيا مع الاحتفاظ بمنجم زوغوتا،وبهذه الوساطة انتهى النزاع حول ملكية الجزء الشمالي من سيماندو، الذي استمر لأكثر من 10 سنوات، وعلى الرغم من حل مشكلة الملكية في الجزء الشمالي من سيماندو، إلا أن النزاع بين شركة فالي وشركة بي أس جي  كطرفين في المشروع المشترك لم ينته، فمنذ عام 2019 حتى الآن تقدمت شركة فالي بسلسلة من المطالبات ضد شركة بي أس جي تصل قيمتها إلى 1.2 مليار دولار زاعمةً "الاحتيال وانتهاك الالتزامات" كما قامت شركة بس أس جي بنقل ملكية منجم زوغوتا إلى شركة نيرون ميتالز.

 

تعد قصة منجم سيماندو نموذجًا حيا على استخدام الموارد كسلاح في الصراع العالمي المحتدم، قصة بدأت بالاحتكار والإخراج من المنافسة لحرمان الصين وغيرهالمصلحة عملاق التعدين الأنجلو-أسترالي، وانتهت بوساطة فرنسية، مرورا بدخول الأخيرة عن طريقرأس المال الصهيوني والعكس صحيح، وهي ظاهرة متجذرة في الغرب الإفريقي منذ إنشاء ميفرما 1952،وانعكاساتها كبيرة على تطوير الموارد الجيولوجيةوالاستراتيجية لدول شبه المنطقة خاصة موريتانيا، وما حصل من احتكار، وإخراج من المنافسة، وفساد ونقل حقوق التعدين بمليارات الدولارات دون فائدة على الشعب الغيني المسكين حصل مثله في موريتانيا وبطريقة أكثر بشاعة، وإذا كان فساد لانسانا كونتي والصعود المؤقت لموسى كامارا إلى السلطة قد أدى إلى إزاحة الاستثمارات الأنجلو-أسترالية، ودخول الاستثمارات الفرنسية والإسرائيلية في سيماندو، فإن "ديمقراطية"ألفا كوندي أجبرتهم على تقيؤ ما ابتلعوا من حديد غينياعن طريق الفساد، وكأن الاستثمارات في الموارد الجيولوجية، والانقلابات في إفريقيا هما وجهان لعملة واحدة، ويبدوا أن الفراغ الناتج استغله لاعب كبير جديد ليدخل بقوة معلنا عن بداية حكاية جديدة من حكايات المنجم الذي قد يغير مستقبل السوق العالمي لخامات الحديد.

 

 

يتواصل ...

د. يربان الخراشي

 

خميس, 26/12/2024 - 23:15