أدرك الإنسان أن الظواهر في الطبيعة تبدو وكأنها تتكرر وفق سنن ثابتة، وأن العقل والحواس وتكرار الملاحظة توصل عنها إلى علم مفيد يتقاسم. ثم أدرك أن الحواس التي تقيدها حدود الزمان والمكان وتقصر عن الكنه وتتقاصر عن بعض التفاصيل، قد تخدع أيضا. ثم أدرك العقلاء أنه إذا كانت الحقيقة معقولة بطبيعتها فإنه ليس كل ما هو معقول منطقا حقيقة، وأن العقل يتطاول بالتفكير ويسحب المعقولية على ما لا سبيل إلى إثباته. ليتسلل الشك إلى المعرفة -إلى إمكانيتها- بعد أن تزعزعت الثقة في كلتي أدواتها العقل من جهة والحواس من جهة أخرى. فتمايز العقلاء من المهتمين بإشكالية المعرفة، إلى عقلانيين وتجريبيين على قدر ثقتهم -أو على الأصح عدم ثقتهم- بهذه الأداة، أو بتلك.
كان ديكارت مهتما بالضوء وله أعمال عنه، وكانت فرساي تزخر بالمرايا التي تذكّر كل حين أن المشهود ليس موجود بالضرورة -أو على الأقل ليس بالضرورة في مكانه المعتقَد، وليس بالضرورة بحجمه وشكله المحسوسين- وكان ديكارت أيضا عالم رياضيات، والرياضيات علوم عقلية محضة، فكان توجسه الحواس وثقته بالعقل ثمرة كل ذلك، كان عقلانيا متزمتا، لا يطلق الثقة لغير العقل المحض. بحث ديكارت للمعرفة عن أرضية صلبة من منظوره العقلاني، أرضية صلبة يقينية تستند إلى العقل المحض، لا تشوبها اختلالات الحواس -بل أكاذيب وخدع الحواس من منظوره- أرضية تصلح لإعادة التأسيس. فجاء الكوجيتو تتويجا لذلك، ليجعل الوجود المحسوس الذي ندرك وجوده بداهة عبر الحواس فهو حقيقة تجريبية مشهودة، ليجعله حقيقة عقلية متذرعا بعملية التفكير،لأنها عملية عقلية محضة، تستحق في نظره الثقة لتجردها من الحواس وما يخالجها في مذهبه من مساوئ تزعزع القطعية.
على الجهة المقابلة كان هيومْ تجريبيا -أحد أئمة التجريبيين البريطانيين- يعتقد أن التجربة تصنع كل ما نعرفه، فجميع معارفنا لا تعدو أن تكون ثمرتها المباشرة أو من إيحائها عبر تداخل التجارب المتراكمة في الذهن. لم يكن يعترف أن للعقل قوالب قادرة عل إنتاج معرفة منفصلة عن التجربة. ولم يكن هيوم -دافيدهيوم- يعترف بالسببية ويعتبرها مجرد تزامن، ويعتقد أن كل ما نعتبره علما لا يعدو أن يكون اعتقادا أثمره تكرر التزامن وأن نتيجة التجربة ليست حتمية وإن تكررت، جاعلا العلم مجرد اعتقاد، كان سبْتيك، وقد ألقى سبْتيسيزم هيوم بظلاله على العلم، على يقينيته، وجعله فرعا من فروع الاعتقاد ليس أكثر.
اشتغل كانْت لفترة طويلة من حياته بالماورائيات، مجال لا تطاله الحواس ولا يتسع للتجربة، فكان عقلانيا مطمئنا لأن العقل المحض هو الأداة الوحيدة المتاحة لمحاولة الفهم في هذا الحقل الذي يشتغل به. خلال الفترة التي عاش فيها تسارعت وتيرة الاكتشافات العلمية وتطورت الفيزياء بسرعة كبيرة، وأثمرت رخاء وقوة الأمم. فاستغرب كانْت أن معرفتنا بالماورائيات -الحقل الذي يستحوذ حينها على اهتمامه- لم تتطور بنفس الوتيرة رغم أهمية العقول التي سُخرت لدراستها، وأن الأسئلة بقيت هي نفسها تقريبا دون الوصول إلى إجابات توافقية شافية. ثم جاءت إسهامات هيوم عن العلم وأدواته وموقفه من العقل والتجربة، لتخرج كانْت من تطرفه للمذهب العقلاني، من حالة الاطمئنان للعقل المحض التي كان يعيشها، وليصل تدريجيا إلى الاعتقاد بأن العقلاء لم يحققوا تقدما يذكر في الماورائيات ببساطة لأن العقل ليس أداة معرفتها المناسبة، فهو لا يوصل إلى حقيقة تتقاسم خارج إطار آلتي البرهان الرياضي والإثبات التجريبي غير المتاحة حين يتعلق الأمر بالماورائيات. وليدرك أن العقلاء استخدموا العقل أداة لفهم العالم دون معرفته هو بالقدر الكافي. ليبدأ رحلة تعقل العقل، ثورته الكبّرنيكية التي تجعل العقل موضوعا للدراسة، والتي ستصبح نتائجها أحد أهم إسهاماته، بل أحد أهم الإسهامات في تاريخ الفكر البشري والتي قدمها في كتابه "الصيني" نقد العقل الخالص.
لعل في حدود العقل، التي وصل إليها كانْت ثمرة من ثمار تعقله العقل، مرتكزات فك الخصومة التي نعيشها مع العقل منذ القرن الثالث الهجري، خشية على الدين من مخرجاته، والتي لا تزال حتى اليوم تلقي بظلالها على التنمية وعلى علاقتنا بالعلم والفكر، وأأسف هنا أن شُعبا تشكل الغالبية الساحقة من أبنائنا الذين يُمتحنون في الباكلوريا لا يجدون الفلسفة على مائدة الامتحانات، لنعزز عندهم الاعتقاد أن العلم والفكر قابلان للفصل. لا يقل إسهام كانْت في الأخلاق عن إسهامه في فهم العقل وقد خَلقت حِبكة ونحاج منظومته الأخلاقية ملامجم للمتغلبين شكلت متنفسا للجماعات والشعوب المغلوبة على أمرها في كل أرجاء المعمورة، وقد أعود لفلسفته الأخلاقية في مكتوب آخر قبل نهاية السنة، إن كتبت السلامة والتوفيق.
كانَت باريس عاصمة فكرية يلتقي فيها الفلاسفة والمفكرون وتتلاقح الأفكار لتشع على أوربا والعالم، وكانت كونيغسبرغ المدينة الواقعة في شمال ألمانيا -في روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة-، من الناحية الفكرية مجرد ضاحية شمالية بعيدة عن العاصمة باريس، ولد بها كانْت وعاش ولم يمت حتى أصبحت بأعماله أهم رافد فكري في أوربا على الإطلاق. احتفلت ألمانيا والعالم في ابريل الماضي بمرور ثلاثة قرون على ولادة الرجل الذي وضع للبشرية على اختلاف مشاربها الثقافية والعقدية مرتكزات فهم عقلها وتمثل بشريتها، ولا تزال حتى اليوم رغم النكسات الارتدادية -التي لا يستغربها تماما من تبصّر الديالكتيك الهيغلي- تقطف ثمار أعماله.
إن جهل وتجاهل نُخبنا ومؤسساتنا الثقافية والعلمية لكانْت يترجم بأمانة الحالة المعرفية والأخلاقية التي نعيشها.
وفق الله وأعان
د. م. شماد ولد مليل نافع
* إحياء للذكرى المئوية الثالثة لولادة كانْت، كتب لأن الفكر البشري مشترك لا يتجزأ، تجمعه وحدة المنطق العقلي، ولأن لكانْت نوعِيّا منه نصيب الأسد. إن عزوفنا عن الإنتاج الفكري العالمي قديمه وحديثة لا يعدو أن يكون أوتوميتيلاسيوه، من المؤسف أن تدفع إليه الشوفينية الثقافية، أو الشعبوية، أو أن يوصل إليه الركون إلى الكسل الذهني، أو الاعتقاد بأن العلم والفكر قابلان للفصل، أو التماس المساواة -المساواتية- عبر المصاعد النازلة.