
عائدين إلى برودة الظلال المهدّئة التي تبعثها جدران البيت الحجري العتيق، كان سيد أحمد قد شرع في عمله بصمت وكفاءة كما اعتاد، منهمكًا في تحضير وجبة خفيفة قبل الغداء. الشمس، بقسوتها التي لا ترحم، قد أحرقت جلودنا واستنزفت قوانا؛ فكان لا بد من الاحتماء، من اتّقاء لسعة الظهيرة الحارقة.
في صحنٍ معدنيٍّ واسع، وُضعت قطع من لحم الجمل المجفف، مسحوقة بدقة في الهاون حتى صارت كأنها غبار. سكب فوقها الماء المغلي، ثم غطاها بقطعة قماش نظيفة، كي تسمح للحرارة بتليين الألياف المتصلبة للحم. أضاف لاحقًا قطعة صغيرة من زبدة الماعز، تذوب ببطء وتنشر عبقها القوي، الذي يكاد يلامس البدائية. وانتشرت رائحة المزيج في الجو الحار، تحمل نَفَسًا من الزمن الغابر.
هذا الطبق، تيشطار، يحتل مكانة أساسية في المطبخ المحلي. في عمق منطقة آدرار، يؤكل في الواحات كما في المدن. هذا اللحم المجفف، بطعمه القوي واللاذع، جزء لا يتجزأ من الهوية الغذائية للأسر الموريتانية. يُحفظ في أكياس من الجلد أو في قماش معلق على عوارض المخازن، ليكون مخزونًا ثمينًا من البروتين، خاصة في أوقات الشدة حين تعجز القطعان عن تزويد السوق بما يكفي من الذبائح.
كان الغد هو عيد الأضحى.
في أطار، كانت المدينة تستعد للاحتفال بالمناسبة بزهو. الجلابيب الزرقاء والملحفات النيليّة، الجديدة والمعطرة بالمسك أو المبخرة بالبخور، كانت تنتظر من يلبسها. النساء قضين المساء في تجديل الشعر، والتعطير، وترتيب المنازل. أما الأطفال، فكانوا يرتجفون شوقًا وترقبًا. لحم الخروف، بوعده بالوليمة، سيملأ خبز الشعير، وسيعلو الضحك أزقة المدينة، وتخفّ القلوب، حتى تلك التي أثقلتها قسوة الحياة.
في هذه المنطقة الجبلية من موريتانيا، يأخذ العيد بعدًا شبه مقدّس. ليس مجرد تقليد، بل هو نسمة من الوحدة، وطريقة للمقاومة في وجه قسوة الصحراء. وسحر هذه الأرض، في الحقيقة، لا يكمن في قساوة تضاريسها، بل في ابتسامة أهلها الدائمة — هذا الشعب الفخور، الذي شكّله الريح والحجر، واتخذ من الكرم شريعة، ومن التعاون واجبًا.
وكانت إقامتنا توشك أن تنتهي. في صباح اليوم التالي للعيد، كنا سننطلق إلى شنقيط، المدينة الأسطورية المعلقة في الزمن، والتي كان اسمها، قديمًا، يدل على وطن بأكمله. طريق طويلة تمر عبر رقّ قاحل ستأخذنا إلى أعالي الهضبة. مدينة مقدسة في الإسلام، محطة للقوافل، ما زالت واقفة، تتحدّى القرون، رغم زحف الكثبان الصامت.
رمال العواران، ببطء ولكن بثبات، كانت تلتهم جدرانها، وتسد آبارها، وتهدد أسسها، وتخنق نخيلها، وتحلم بابتلاعها. لكنها تصمد، بثبات أولئك الذين قرروا ألا يسلّموا، وألا يسمحوا للطبيعة أن تسترجع ما وهبته يومًا بسخاء.
شنقيط، مكتبة الصحراء، تكشف أحيانًا، لمن يُحسن النظر، أسرارًا دفينة. تحت قببها القديمة تنام مخطوطات حفظها الزمن، حكايات منسية، وصلوات سُطرت بحبر الفحم المثبت بصمغ الطلح. وفي صمت أزقتها الرملية الخشن، قد يسمع المرء همسات العلماء، أو وقع أقدام الأجداد…
من مقالة "نخيل في الصخرة
بقلم سيداحمد شين