فرصة الخروج من مغامرة الهيدروجين الأخضر

يقال في بعض الأمثال إن  "الحظ يخدم الغشيم" ، وهذا في رأيي هو ما حدث  لبلادنا هذه الايام، فقد خدمها  الحظ  دون أن تشعر  عندما أعلنت  شركة سي دبليو بي غلوبال الاسترالية  المالكة لمشروع أمان لإنتاج الهيدؤوجين الاخضر عن توقيف أو تجميد مسارها المرتبط بإنتاج الهيدروجين الاخضر ،   لقد أنقذ هذا التأجيل بلدنا  أو بعبارة أدق انفتحت أمامه فرصة للنجاة من مشروع عملاق مضر، و غير  سيادي لا فنيا ولا ماليا،   مشروع لم تفرزه حاجة الوطن ولا رؤيته، وانما نشأ من عطش اوربا للطاقة في حقبة ما بعد الغاز الروسي،  ومن طموح شركات عملاقة لا ترى في الصحراء سوى مساحة فارغة  صالحة لأي شيء تتفتق عنه عبقرية المقاول وطمعه وثقافة الربح لديه..

 

وهكذا تم دفع البلد  الى التخلي عما يقارب 33 الف كم² من الارض  هي مجموع المساحات الممنوحة لشركات أمان، ونور، ثم الشركة البولندية ، الراغبة كلها في انتاج هذه المادة، الهيدروجين الاخضر بالاضافة الى الامونيا في موريتانيا.

والحقيقة أن العبرة هنا ليست بضخامة هذه المساحة المتنازل عنها  لهذه الشركات، وهي على كل حال  مساحة هائلة فهي تفوق مثلا  مساحة  دولة مثل بلجيكا، وتساوي ثلاثة أرباع  مساحة سويسرا، واكبر من مساحة الكويت وقطر ولبنان مجتمعة ..كل هذه الارض من أجل الهيدروجين الاخضر ؟  وتنتجه شركات أجنبية، وي ! . لكن  الاكثر ايلاما من كل هذا، أنها شركات تدوس بمشاريعها، أو على تقضي على  واحدة من أثمن الثروات الجيولوجية في البلاد : الجبس، وربما لا  يعرف كثيرون مثلا أن موريتانيا  هي آخر نقطة في العالم  جنوبًا تحتفظ بمخزون كبير ونقي من الجبس الطبيعي،  فهي المُصدّر الوحيد الآن تقريبًا لهذه المادة في غرب إفريقيا، حيث لا تملك مالي ولا السنغال ولا ساحل العاج ولا غينيا ولا توغو ولا بوركينا فاسو أو النيجر هذا المورد الاستراتيجي؛  وحدها موريتانيا تستطيع سد حاجاتهم من هذه المادة ، وتنافس شركاتها  وبضراوة نظيراتها من تونس ومصر في سوق في الجبس في افريقيا جنوب الصحراء كلها ، انها مادة مهمة ترتبط بقطاع  البناء والاسكان ، أي البنية التحتية الحقيقية للتنمية.

كيف يُعقل إذن،و بأي منطق استثماري أو وطني يتم تسليم  عشرات آلاف  الكيلومترات المربعة التي تخفي في أجزاء كثيرة منها هذا المورد الاستراتيجي الحيوي،  وربما غيره، لشركات طاقة دولية ذات نفوذ بالغ،  لانتاج مادة  التي لم تتضح معالمها ولا بنيتها التسويقية بعد، باعتراف هذه الشركات نفسها ، ثم نُهمل ثروة قائمة فعلًا، مثبتة الجدوى، ومتصلة بحاجات شعوب القارة؟

أليس هذا تفريطًا في الأهم من أجل المجهول، واستجابة متعجلة لنداء الخارج بدل استشراف مصلحة  الداخل وحاجة الجار؟

و الاسوء أيضا، وللمفارقة، أنما يُخفيه الهيدروجين الاخضر تحت عنوانه البراق  "الطاقة النظيفة" لا يقتصر على وأد الجبس حيا تلمع عيناه ، بل يشمل كارثة أخرى أكثر بشاعة ،  فلكي يُنتج الهيدروجين الأخضر، يجب استخدام كميات هائلة من الماء عبر التحليل الكهربائي، وهذا يعني إقامة محطات تحلية عملاقة على الشواطئ؛  وما إن تتم عملية التحلية، حتى تُلقى مياه مالحة أكثر تركيزًا و أكثر تشبعا بالمواد الكيميائية في البحر، مما يؤدي إلى خلل في التوازن البيئي البحري، وبالتالي انهيار للمنظومة البيولوجية التي هي عماد الحياة  في  مجتمعات الشاطيء، والمفارقة هنا  هي أن خضرة  الهيروجين المتأتية من اعتماده على الطاقة الشمسية في التحلية تحمل  نذر خراب منظومات التوازن الايكولوجي البحري فأي "خُضرة" هذه التي تقضي على حيوية البحر وتكبس على نفائس  الأرض وأنفاسها؟

كيف لمشروع أن يُسمّى مستديما  وهو يحول البحر إلى مغسلة ومكب لمخلفاته المالحة؟

إن الحياة البحرية، وهي  آخر خطوط الأمن الغذائي،  وعلينا أن نفكر ألف مرة في أي شيء يحتمل أن يؤثر فيها.

وأخيرا، بأي حق يتم اقناع بلدنا بضرورة الاسهام  في الحلول  البيئية لإنقاذ الكوكب الأرضي  من انبعاثات لا يشارك  في اطلاقها أصلا ؟ إن الدول المصنعة التي تبحث اليوم عن طاقة "نظيفة" بدل الوقود الأحفوري الملوث، هي  التي رفعت حرارة الأرض، مع أنها لا تزال، رغم كل شعارات المناخ، تصر على الحفاظ على نمطها الاستهلاكي–الطاقوي الجشع الذي هو السبب الحقيقي لأزمة الكوكب.

 

الخلاصة أن تأجيل أو تجميد هذا المشروع  أو حتى التلميح بذلك – يجب أن يُستغل كفرصة سياسية واستراتيجية تقوم بلادنا في ظلها  بتراجع كلي عن الموضوع، وطي ملفه بكامله، وإلى الأبد.

جمعة, 13/06/2025 - 17:13