
لقد عرف الأستاذ محمد محمود ودادي في مجال الإعلام قبل أن ينتقل إلي الدبلوماسية و السياسة لكنه ظل محافظا على مقامه كرجل ثقافة وباحث ينتمي إلي جيل من الرواد جمعوا معارف المحظرة قبل الالتحاق بمعهد أبي تلميت الذي زاوج بين العلوم التقليدية و الفنون الوافدة تأسَيا بنموذج الأزهرالشريف.
لقد تبيَن اهتمام الأستاذ ودَادي بالتراث عن طريق ترجمة كتابات بول مارتي Paul Marty و تأليفه عن محمد المختار ولد الحامد القائد السياسي كما ظهر تعلقه بالتوثيق في كتابه "تجربة وزير مدني في حكم عسكري" وقد شدَانتباهي حين كانت تجمعنا جلسات مع المرحوم محمد ولد مولود ولد دادَاهاصطحابه لذلك الدفتر الأنيق الذي كان يقيَد فيه ما يراه مفيدا و ما يعجبه من أقوال الشنافي و ما أكثر تلك المواطن في حديث ذلك العملاق.
إن هذا الحس التوثيقي هو الذي حدا بالأستاذ ودَادي إلي تدوين أخبار موطنه الرشيد وأنساب قومه أولاد سيدي الوافي غير أن هذا المسعى المحلي والعشائري لم يمنعه من توسيع دائرة القبائل والطبقات الاجتماعية كما أن مناقب أهل التقليد لم تحرمه من استعمال أدوات أهل التجديد و هي مقابلات نتناول من خلالها عرض كتاب وادي الرشيد ثم نخلص بعد ذلك إلى جملة من الملاحظات.
أولاد سيدي الوافي وقصر الرشيد ودوائر القرابة والتحالفات والعصب
يوضَح الكاتب أن الهدف من تأليفه هو جمع "ذاكرة المجتمع" من النسابة وانتشال تاريخ الرشيد الذي عصفت به رياح البداوة وتشرد السكان وضياع المكتبات وقد كلَفه ذلك سنوات عديدة من الجمع والتدوين والتجوال في كل مناطق البلاد فجاء الحصاد في شكل وثيقة مرجعية لأهل الرشيد تفصَل أطوار عمران هذا "لكصر" و تسرد أنساب أهله وتحصي أملاكهم العقارية.
بدأ الحديث عن عمارة الرشيد في آخر القرن الثامن عشر على عهد سيدي احمد "امينوه" ولد سيدي ألامين وقد وقع تخريب الرشيد أيام الحروب القبائلية في 1844 ثم كان الخراب الأخير على يد الفرنسيين عام 1908 وقد حاول دحَان ولد عبد الرحمن إعادة اعماره ولكن عودة السكان بشكل معتبر لن تتحقق إلا سنة 1968 و قد انطلقت منه هجرة أخيرة إلي ولايات الجنوب إبان جفاف 1972 و يختم المصنف بذكر ملاك النخيل والحدائق في الرشيد موضحا مواقعها وحدودها وقد أحصي منها ما يربو على 600.
أمَا الأنساب فيرجع المؤلف إلى "انطلاق أمر كنته" في أيام جدَهم الأعلى سيدي علي بن سيدي يحي الذي سيخلفه الشيخ سيدي محمد المؤسس الحقيقي للمجموعة في شمال البلاد ثم يصل إلى الشيخ سيد احمد البكايوهو الذي تفرَعت عنه القبيلة فكان منهم الشرقيون و منهم الغربيون الذين يتكونون من العشائر السبعة التي تضم أولاد سيدي بوبكر و قد تفرَع عن هؤلاء بطن أولاد سيدي الوافي الذين يعرفون أيضا بأولاد سيدي بوبكرالكحل.
ينقلنا الكاتب بعد ذلك إلى التحدث عن الزعامات وقد استوقفه على الخصوص اجَه ولد محمد محمود 1883-1956 وجماعته التي كانت تدبّر معه أمور العشيرة ويلي ذلك وصف أحوال حلة أولاد سيدي الوافي ثم التفصيل في حياة حيَهم البدوي الذي يطلق عليه اسم "افريك أولاد سيدي الوافي" قبل أن يتعرض لطبقات مشاهير الحياة السياسية و العلمية والثقافية.
في مقابل هذا الاهتمام بالرشيد وأهله نجد المؤلف يشير إلى امتداد الكيان الكنتي من أرض تيرس إلى جهة أزواد وتخوم بلاد السودان ويذكر العائلات والأفراد الذين استوطنوا السنغال أو بلاد المغرب أو الحجاز مشيرا إلى أن مرد ذلك الامتداد إلى تضافر التحكم في مواد التجارة كالملح في تغزة و الجلَ و النفوذ الروحي لطريقتهم الصوفية.
ثم إن المؤلف خلص إلى التعريف الأوسع للقبيلة القائل بأنها "أرومة منحدرة من زعيم ديني" التفَت حوله اسر جمعتها المصالح فتعصبت وهذا ما جعله يأتي على ذكر السكان الذين ينحدرون من أصول شتي وأولئك الذين استوطنوا الرشيد و غرسوا فيه النخل بعد قدومهم من مناطق مختلفة.
المنهج والتجديد
إن تقارب الموضوع و تجاور الموضع يجعلنا نميل إلى أن الأستاذ ودَادي قد ألهمه كتاب عبد الله ولد اخليفة في تاريخ منطقة تكانت : وادي تجكجة من 1660 إلى 1960 الصادر عام 1998
La région du Tagant en Mauritanie : l'oasis de Tijigja entre 1660 et 1960, Karthala, Paris, 1998
حيث تتبع تاريخ قبيلة العلويين من خلال تطور واحة تيجكجة فربما حذا حذوه في بعض الأوجه ومن هنا تبرز مظاهر التجديد في كتاب وادي الرشيد إذ المقاربة في حد ذاتها من أصناف تطوير معالجة أحداث الماضي وأخبار الأولين وقد يبدو الكتاب أحيانا ملامسا للعلوم العصرية في سرده لأنواع النباتات و مواقع الآثار و النقوش الحجرية غير أن المكمن الحقيقي للتجديد يتمثل في تقصَي أخبار الطبقات المهمَشة و الإشادة بمآثرها و مساهماتها في الحياة الاجتماعية وهذا أسلوب قلَ مثيله في مصنفاتنا التي تقتصر عادة على أخبار علية القوم وتتجاهل الأطراف و التابعين.
وقد أفرد المؤلف فقرات لأهل الصنعة و المهن و أشاد بكل من نبغ في أحد الفنون وقد أثني علي أصحاب الفنون الشعبية بالرشيد كأهل المسرح و المحاكاة وفن العمارة ونحت الحجارة وخصص فقرات لأهل الموسيقي وأصحاب الأصوات الجميلة ووَفق في الاهتداء إلى سبيل سلس لحصر مجموعات الحراطين وعائلاتهم كما يعطي الكتاب معلومات مفيدة عن بعض التقاليد والعادات في الملبس والمعاش والزينة وهي كلها غريبة عن السردية التاريخية التقليدية.
وقد حاول المؤلف أحيانا التحرَز من مهالك التاريخ المناقبي حيث يتحفظ عند الحديث عن الأساطير والخوارق و العجائب باستعمال عبارات مثل "يذكر" و"يقال" و"سمعنا" و "من المتداول" و "يعتقد العامة"...
ملاحظات:
إن المأخذ الأساسي علي هذا التأليف هو غياب الخرائط فالموضوع أقرب ما يكون إلى الجغرافيا البشرية وأحوج ما يكون لخرائط توضح مجري الوادي و تفرعاته وروافده و تغني عن كثير من نعوت الجهات ويهتدي بها القارئ في متاهات التسميات و المواقع التي قد تبدوا بديهة للمؤلف لكنها قد تتشابه على القارئ العادي وربما كان عذره في ذلك أن الكتاب موجه إلي الخاصة من أهل وادي الرشيد وذرا ريهم ثم إن الرسوم البيانية تفيد كثيرا في هذا النوع من الأعمال وكان من الممكن الاستعانة بها.
وكأني بمعترض يشق عليه ما في جرد أملاك السكان وتتبع أسماء أفراد البطون والعائلات من رتابة أحيانا أو ملل تارة أخري فعليه أن يعرف أن هذا هو الجانب العملي الذي حدَده الكاتب كغاية لمؤلفه ومع ذلك فإن الأستاذ ودَادي لم يبخل على القارئ إذ جاء بمجموعة من التوابل بالحديث أحيانا عن حياته الشخصية وباستطراد النوادر و المناظرات و الجدل الساخر والمداعبة الشعرية تارة أخري.
إن هذا الكتاب الضخم يمكن أن يصنف في طبقة المنوغرافيا (monographie) وسجلات التوثيق وهي أشكال نادرة في أرضنا غير أنها على علاَتها تعتبر من المصادر المهمة للتاريخ فلو أن كل أهل واد او جبل قيَدوا تاريخه وأخبار سكانه و أحصوا أملاكهم ووثَقوا تقاليدهم لأصبح لدينا كمَ من المعارف تبني عليه لاحقا التحاليل والصياغات التاريخية فمجمل المونوغرافيات هو الذي يمكَن من كتابة مجمل التاريخ في أغلب البلدان أما نحن فإننا نقلب المسألة إذ أننا نروم الإحاطة بالتاريخ الكلي قبل أن نجمع عناصره في الجزئيات.
الأمين ولد محمد بابه
قسم التاريخ بجامعة انواكشوط العصرية
