علاقات الدول ومصالحها الخارجية لا تُدار بالعنتريات وادعاء البطولات الوهمية، ولا تُدار أيضاً بالاستكانة وتشبيك الأيدي والتزام الصمت على الدوام. كان واضحاً من خطابهم الشعبوي ومواقفهم المتنطعة، ومنذ بداية انقلابهم، أن العساكر الماليين غير مؤهلين لقيادة بلد تتفاقم مشكلاتُه ويتسع خرقُه على راقعه مع كل يوم تطلع شمسه، وأنهم لا يملكون من الرشد والحنكة والخبرة والحكمة ما يؤهلهم لإدارة علاقات الجيرة بما يحافظ على مصالح الجميع ويضمن انتظامَ التساكن المشترك والعيش الهادئ الآمن.
لقد تزايدت وتكاثرت في الآونة الأخيرة الانتهاكاتُ الحدودية والاعتداءات الممنهجة من الجيش المالي ومرتزقة «فاغنر» على سكان مناطق التخوم الموريتانية، كما تعرض ويتعرض للتضييق والتهديد منمو المواشي الموريتانيين داخل الأراضي المالية.. وهي تطورات تتطلب موقفاً حازماً مِن الدولة الموريتانية، كما تستدعي وضعَ خطط طوارئ للحفاظ على حياة السكان ومناشط اقتصادهم المعيشي.
والخاصرة الرخوة في علاقتنا بهذا الجار المبتلى بالقلاقل الاجتماعية والأمنية والانقلابات العسكرية، منذ مطلع العشرية الماضية، هي اعتماد منمي المواشي الموريتانيين خلال الجزء الأكبر من العام على الرعي والسقي داخل الأراضي المالية نفسها، خاصةً أن التنمية الحيوانية تشكل العمودَ الفقري لاقتصادنا الأهلي في تلك المناطق بالخصوص. بيدَ أنه لا يمكن لعلاقة الاعتماد هذه أن تستمر إلى ما لا نهاية، كي يواصل جارنا الشرقي «الإمساكَ باليد التي تؤلمنا»، بل يتعين التفكير جدياً في إيجاد بدائل ذاتية لتعويض منمينا عن الانتجاع والرعي والسقي داخل الأراضي المالية.
وفي هذا الخصوص فإن لنا تجربة سابقة مع الجارة الأخرى السنغال؛ وكان ذلك عقب الجفاف الماحق الذي ضرب ولايات النهر في أواخر السبعينيات، حيث اضطر ملاك المواشي فيها إلى «التكطاع»، أي عبور النهر بمواشيهم نحو الأراضي السنغالية الخصبة والغنية بالأعشاب والحشائش. وكان الأمر مكلِّفاً وشاقاً بالنسبة لسكان هذه الولايات، لاسيما أن السنغال كانت تفرض رسوماً وضرائب عالية على السقي والرعي، علاوة على ما يتعرض له الرعاة أحياناً من حالات تضييق واعتداء. وبغية طرد المنمين الموريتانيين وإجبارهم على الرجوع من حيث أتو، بالغت السلطات السنغالية في رفع رسوم السقاية على أصحاب المواشي الموريتانيين، وبسبب ذلك اضطر معظمهم للمغادرة، ولم تأت أحداث عام 1989 حتى كانت غالبيتهم قد عادت إلى مرابعها رغم شح الموارد الرعوية. وتكلَّف سكان هذه الولايات أموالا طائلةً في تأمين الأعلاف لإبقاء مواشيهم على قيد الحياة، ورغم ذلك فقد خسروا ملايين الرؤوس بسبب نقص الأعشاب والحشائش، حتى أنه في بعض السنوات كانوا لا يتوقفون عن تقديم العلف لمواشيهم أكثر من شهرين في العام. لكن بفضل الله تعالى تحسنت الحالة المطرية في الأعوام الأخيرة وانتعش الغطاء النباتي ونمت المواشي وتضاعفت أعدادها في ولايات الضفة.
انطلاقاً من هذه التجربة، ربما يتعين الآن إيجاد برنامج وطني متعدد الأبعاد، يهدف على المدى المتوسط إلى فك علاقة الاعتماد على الجار المالي، وذلك من خلال مضاعفة نقاط المياه وإنشاء مزيد من السدود والتوسع في عمليات البذر الجوي وإيجاد صناعة أعلاف متطورة ورخيصة التكلفة.
فهذا هو الرد الأمثل والأكثر جديةً ومسؤوليةً واستدامةً على استفزازات الجانب المالي، سواء أكانت رسمية ومقصودة أم مجرد احتكاكات موضعية لا تمثل الإرادة العامة المالية الحقيقية!