كتب أحدُهم هنا هو أيضاً على الفيسبوك عن "المدرسة الجمهورية"، وبشيء كثير من التفلسف ومحاولات التأويل، لكن ليس ليتحدث عنها أو ليضع الإصبع على مواطن الوجع في أوضاعها الحالية، وإنما لكي ينتقد المدارس الخاصة دون الغوص بعيداً في أسباب معضلتها، وبالأساس لكي يهاجم بعنف نظامَ التعليم الوطني في الستينيات والسبعينيات، زاعماً أنه كان مجردَ استمرار لنظام التعليم الاستعماري الذي خلا من تدريس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، وبأن مقرراتِه افتقرت إلى مفهوم الوطن ورموزه ومعاني الانتماء إليه والتضحية من أجله.. تماماً كما هو الحال بالنسبة للخطاب الرسمي نفسه آنذاك، على حد زعم صاحب المقال!
والحقيقةُ أن العصر الذهبي لنظامنا التعليمي إنما كان في الستينيات والسبعينيات، وأن إرادةً رسميةً، متبصرةً وجادةً ومسؤولةً، تلاقت مع إرادة جيل مخلص ومتحمس من المعلمين الذين كوّنتهم سلطات الدولة الناشئة وأرسلتهم على عجل، ليفتحوا الفصول وينشروا التعليم والوعي في كل مكان. لقد كان جيلا من المعلمين مثالياً في وطنيته وعطائه وإخلاصه، وقد استمد حوافزَه من سلطة رأتْ أن كل شيء بالنسبة لها كان أولويةً، لكن أولويتَها الأكبر كانت لقطاع التعليم والتكوين الذي منحته أكبر نصيب من الميزانية العامة للدولة (أكثر من الربع)، وقد ظل نشر التعليم العصري وسياسة «الاستقلال الثقافي» همَّين رئيسيَّين لها، ومِن أجل ذلك استقْدَمت مئات الأساتذة العرب (كان يقام لهم حفل استقبال سنوي في الرئاسة)، كما أنشأت المعهدَ التربوي الوطني لوضع مقررات موريتانية خالصة، وأسست المدرسة العليا للأساتذة رغبةً في تكوين كوادر وطنية موريتانية قادرة على إنفاذ سياسات الاستقلال الثقافي.
ومع إنشاء الباكالوريا الوطنية في مطلع السبعينيات كانت سياساتنا التعليمية قد بدأت تعطي أُكْلها على شكل دفعات جديدة من الطلبة ذوي مستويات، علمية وأدبية وفكرية، أفضل كثيراً من مستويات نظرائهم في أمْثل مدارسنا الحالية. كما كان منسوب الروح الوطنية لديهم أعلى بما لا يقارن من طلبة المدارس والجامعات حالياً.
ولعل السبب الأكبر في ذلك هو كون القيادة السياسية في حينه، وبكثير من التبصر والتوفيق في توجهاتها، قررت استلهام النموذج التعليمي التونسي متمثلا في نواته «مدرسة الصادقية» ذات المنهج المزدوج المتين والعميق معاً، المتجذر في أصالته والراسخ في عصريته، والتي خرَّجت كبار رجالات العلم والدولة.. وليس أي نموذج تعليمي آخر على غرار النموذج الليبي مثلا ذي المحتوى الأيديولوجي الغالب، والذي أصبح مثالا لسياسات التجهيل والتسطيح والتغييب، وكان مفهوم الوطن في مقرراته متذبذباً وخاضعاً لمزاج الأخ القائد، فهو «الوطن العربي» تارةً وهو «الجماهيرية العظمى» تارةً ثانية وهو «الولايات المتحدة الأفريقية» تارة ثالثة.
كان نظامنا التعليمي الوطني يسير وفق منهج تدرّجي إصلاحي عقلاني، يوسّع مساحةَ التعريب مع مرور الوقت، محافظاً على اللحمة الوطنية ومعزِّزاً اللغات الأجنبية لدى خريجيه. كان نظاماً متواضعاً في مُدخلاته قوياً في مُخرجاته، وقد استطاع في غضون سنوات قليلة أن يرسِل آلاف الطلبة إلى الجامعات العربية والأفريقية والغربية، كانوا يذهبون بروح وطنية ويعودون بروح وطنية متطلعة إلى الإسهام في البناء الوطني.. قبل أن يبدأ التعثر مع إصلاح عام 1979 الذي قوَّض كل المكاسب السابقة وأنشأ نظامين تعليميين في بلد واحد جَعَلَا منه «بلدين منفصلين» يتعذّر التواصل بينهما إلا من خلال الترجمة، إمعاناً في تعميق الشرخ الثقافي والعرقي والمجتمعي. ثم لنجد أنفسَنا بعد سنوات قليلة بعد ذلك التاريخ وقد دخلنا مرحلة سديمية من الفوضى والعدمية والفساد والتزوير والتردي، وَاصَلَ كلُّ شيء فيها انحطاطَه، بما في ذلك التعليم الذي أصبح في حكم المعدوم إلا في المدارس الأجنبية التي هي حكر على أبناء كبار المسؤولين وعلية التجار من حلفاء السلطة وشركائها، إضافةً إلى عدد قليل من المدارس الخاصة، الجيدة نوعاً مَا، يدخلها أبناء مسؤولي الدرجة الثالثة من المسؤولين أمثال كاتب مقال «المدرسة الجمهورية».. أما الوطنية فلم يبق منها إلا شعارات باهتة يُنثر ورقُها من وقت لآخر بغيةَ التغطية على خصخصة الشركات وتزوير الانتخابات وتفليس المؤسسات ونهب الميزانيات ومنح القروض والأراضي وتعويم الفاسدين الفاشلين والوصوليين الانتهازيين.
لقد تحدَّث المختار ولد دداه عن «الوطن الموريتاني» وعن «الأمة الموريتانية» منذ أول خطاب له عام 1957، وأطلق نداءَه الشهير «لنبن معاً الوطن الموريتاني»، وكانت خطاباتُه كلُّها تتحدث عن الوطن والمواطن والوطنية.. لكن كاتب «المدرسة الجمهورية» يزعم أن الخطاب الرسمي الموريتاني خلا من مفردتي «وطن» و«أمة»، كما يدّعي بذات الدرجة من «متن لوجه» أن نظامَنا التعليمي افتقر إلى مادتي التاريخ والجغرافيا، بينما الحقيقة أنه مباشرةً عقب إنشاء المعهد التربوي الوطني بدأ أطرُه الاعتكافَ على إعداد كتابَي التاريخ والجغرافيا للصفين الخامس والسادس، وقد قرأناهما في السبعينيات، وكان محتواهما مقسوماً بالتناصف تقريباً بين تاريخ الإسلام والتاريخ الوطني الموريتاني بما فيه تاريخ دولتَي غانا والمرابطين وتاريخ المقاومة ومعاركها وأهم أبطالها، مع صفحات مكرسة لتناول الاستقلال الوطني ومرحلتِه وأبرزِ أحزابه وشخصياته.
ولم يكتف كاتب المقال بذلك التحريف الفاضح الفج، بل نفى ما هو معلوم من ماضينا القريب بالتواتر واليقين، ووقع في تناقضات يحار المرء كيف تَخفى على طفل غر في بداية وعيه، ومن ذلك قوله إن نظامَنا التعليمي في الستينيات والسبعينيات لم يكن إلا استنساخاً للمدرسة الاستعمارية ذات المضمون العلماني الصرف، ليقول في فقرة أخرى من المقال ذاته إن المدرسة الموريتانية في ذينك العقدين استعاضت عن المحتوى الوطني في مقرراتها بالتركيز على المحتوى الديني!
والحقيقة أن هذا ليس إلا دليلا آخر على أنه من المستحيل على معتنقي النظريات الأيديولوجية الدوغمائية السطحية أن ينتجوا خطاباً خالياً من التناقضات ومنسجماً في النظام الداخلي لبناء حججه، حتى وإن سلمت نياتهم وخلت صدورهم من الغل والحقد وتحررت عقولهم من الغرور (النادر الذي لا يقضى به).. أما حين تنضاف لديهم إلى الديماغوجيا الأيديولوجية ولاءاتٌ خارجيةٌ لا يترددون في إعلان استعدادهم للقتال من أجلها دفاعاً عن ولي نعمةٍ، فإن الوطن يصبح آخر «مُفَكَّر فيه» بالنسبة لهم، وقد رأينا جفونهم وقد تراخت وأثقلها النعاس المريح وهي ترقب ما حدث بحق مَن «رباهم» مِن أبناء هذا الوطن حين جاءت اللحظةُ التي يحتاج فيها إلى دعمهم ورد جميله إليهم ولو بشطر كلمة.. لكنهم مستعدون لحمل سلاحهم المعهود (الكذب والتلفيق) ضد تعليم نظام المختار ولد داداه بكل حماس واندفاع، وللنهوض منتقدين التعليم الخاص بشيء من الحذر والتوجس (فأبناؤهم يدرسون فيه وليس في «المدرسة الجمهورية» التي ينظّرون لها).. ليبدو كما لو أن سياساتِنا التعليمية الحالية تقدم نموذجاً ناجحاً يقتفيه العالَمُ ويحتذيه، أو كما لو أنه لا شيء يستحق التعليق ولو بشطر كلمة (في مقال طويل) على وزارة تعليم تنفق عشرات المليارات من أموال الشعب سنوياً على سيل من عبث المؤتمرات والملتقيات والتكوينات والورشات والبعثات.. بينما حال مدارسنا العمومية في بؤس وفوضى يوجعان قلبَ العدو قبل الصديق! إنه الصمت الانتقائي الذي يقدِّم برهاناً آخر على أن أصحاب الانتماءات الأيديولوجية السطحية، المأخوذون بنزق الغرور وطيش الخفة والحقد، وهم أنفسهم أبناء الأجندات النفعية الوصولية.. ليسوا مؤهَّلين لحمل أختام الوطنية أو لتوزيع صكوكها، وإن حاولوا ذلك -على سبيل الانتحال والسطو وخفة اليد والتفلسف الزائف- متظاهرين تظاهراً بما ليس فيهم وليس لهم صفةً!