على رسلكم أيها السادة،
الثقة في أوقات الضيق هشة، فرفقا بالقوارير،
شكلت جريمة "ربينة العطاي " النكراء التي راح ضحيتها -بشكل مروع - عدد كبير من مواطنينا ، صدمة حقيقية للرأي العام الوطني فضلا عن وقعها المزلزل على الأهالي والمعارف .
و قد ضاعف من ذلك الشعور بالغضب العارم (شائعة أو شبهة) ارتكاب الجرم المدان من طرف (الجيش المالي ؟) وكأنها تندرج ضمن سياق متسلسل من حوادث مماثلة سابقة وإن كانت تلك بدرجة وحجم أقل .
من نافلة القول أن حياة مواطن واحد أو صيانة حرمته هي أمر مقدس و خط أحمر ، يتعين الاستنفار له والتجند من أجله لأن ذلك من صميم واجب السلطة - وا معتصماه! - و وظيفة أي دولة اتجاه حماية مواطنيها ، أيا كانوا وأينما وجدوا .
طيلة الأيام الماضية ، سال الكثير من الحبر حول الموضوع وتعددت ردود الأفعال على صعد عدة و من أكثر من جهة .
و لا زالت السلطات العمومية بصدد معالجة القضية مع نظيرتها في جمهورية "مالي " التي قدم منها وفد رسمي وعالي المستوى ، الجمعة (11 مارس) بهدف تطويق ذيول الموضوع و على الأرجح وضع آليات لمنع تكراره .
وإذا كان مفهوما بل مقبولا أن بعضا من ردود الأفعال الأولية ، و لا سيما الأهلية منها و الشعبية قد تكون بطبيعتها انفعالية و عاطفية و حتى تلامس أحيانا حدود قصوى فيها بعض من الشطط ؛ فليس من المناسب مجاراة ذلك النسق في ردود الأفعال ، من بعض النخب المثقفة و المؤسسات الحزبية عن طريق المبالغة في الولوغ في بعض الأوصاف والتوصيفات غير اللائقة أو أحيانا بالانغماس في مستنقع المزايدة والشعبوية في هكذا موضوع جد حساس و خطير و حتى الآن غير واضح المعالم والملابسات بشكل يقيني .
و الخشية هو خلق مناخ ضاغط يحرج السلطات و يربكها عن المعالجات العقلانية والحكيمة المناسبة للموضوع ، بالنظر إلى كون السلطة دائما بطبيعة الحال أوسع نظرا من الجمهور
و عموم النخبة و أكثر اطلاعا على الحيثيات و أدرى بالخلفيات والاحتمالات وأقدر على تقدير المخاطر و المآلات .
و دون السعي لتبرئة أية جهة في هذه المرحلة ، يمكننا مع ذلك ، التنبيه على بعض الأمور من باب التبصر و التروي .
وفق المنطق البديهي وقرينة البحث عن المستفيد ، لا تبدو للسلطة الحالية في مالي ، على ضوء ما تواجهه من تحديات إقليمية ودولية ذات انعكاسات اقتصادية و اجتماعية شديدة
أية مصلحة في ارتكاب جرائم من هذا النوع ، و مباشرة بواسطة قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية ، ضد مواطني موريتانيا الدولة الجارة التي تشكل حاليا متنفسها الرئيسي في جو الحصار الخانق الذي تفرضه المنظمة الإقتصادية لغرب إفريقيا (CEDAO) ؛ و هي طبعا تدرك كم تتعرض موريتانيا من ضغوط بسبب ذلك !
وإذا استثنينا الاحتمال البعيد و غير المنطقي حاليا ، بالرغبة
" الممكنة" في تفريغ شريط حدودي معين من السكان للاستفراد بالجهاديين أو تعريتهم من أية بيئة حاضنة تغطي تواجدهم وتحركاتهم ؛ فإن الأمر قد يتعلق حينئذ ، على سبيل الاحتمال ، بجهات عسكرية مالية منفلتة (غير منضبطة) أو معارضة حتى ، للحكم القائم و تريد خلق اشكالات له مع موريتانيا صاحبة الموقف النبيل معه ؛ أو أن الموضوع ، وهو الأرجح ، من صنع بعض الجهات الأخرى أيا كانت عناوينهم أو دوافعهم المباشرة و البعيدة.
وفي كلتا الحالتين الأخيرتين ، سيكون المناسب دائما هو دعم السلطة القائمة ومؤازرتها ، إذ لا مصلحة لنا ، البتة ، في انهيار الوضع الحالي في دولة مالي بشكل يخلق تفسخا في السيطرة على البلد أو فراغا للسلطة في أي حيز مكاني ، ستكون بلادنا - لا قدر الله - أول المتضررين منه .
ومن هنا اعتقد أنه لم يكن من الملائم تلك التعليقات غير اللائقة في حق شخص الرئيس العسكري العقيد عاصمي كويتا أو محاولة النيل من صدقية ومصداقية السلطة الحاكمة حاليا و الضغط عليها بتلويحات غير مجدية (كالتهديد بالرد العسكري ،أو بإغلاق الحدود و اطباق الحصار عليها و لا حتى المن عليها بأداء واجب حسن الجوار و منح التسهيلات المينائية التي هي أيضا في المقابل فرص عظيمة للمنفعة المشتركة والمتبادلة في مثل هذه الأوقات الاستثنائية.
وفضلا عن كون مثل تلك التلويحات غير مجدية كما أسلفنا فهي أيضا غير مناسبة بل إنها ضارة و خطيرة إذ قد ترتد علينا سلبا إذا أخطأنا الحساب أو تم تجاوز الحد في التمادي .
- لا ينبغي أن يفوت أحد أن حكومة مالي ليست هي الخصم الاستراتيجي و حتى حالة النزاع المسلح معها -لا قدر الله - لا تشكل أبدا خطرا وجوديا بعكس التهديدات المعروفة الماثلة الأخرى، لذا فإن النفخ في الخصومة معها هو من باب سلوك بنيات الطريق و الحز في غير مفصل .
- من البديهي أن حقائق الجغرافيا عنيدة وعصية على التجاوز . و دولة مالي هي عمقنا ، وكما نحن بوابتها للشمال
و نحو أوروبا فهي بوابتنا الرئيسية على إفريقيا و كما نحن مهمون لها فهي مهمة لنا أيضا على أكثر من صعيد لا سيما في
مثل هذه الأوقات والأحوال . و من المهم استحضار كون الأزمة مع منظمة (CEDEAO) ظرفية و عابرة . وفي وقت ما سيتم تجاوزها باتفاق بين الطرفين على نقطة الخلاف المعلنة وهي مدة معينة للفترة الانتقالية، مرضية للجميع ، لا سيما أن الحصار لم يكن أو لم يعد مجديا وضرره متبادل على الجميع .
و قد يتبع مثل ذلك الاتفاق المحتمل ، إصلاح العلاقة أيضا ، بشكل ما ، مع فرنسا و الدول الغربية لأن الكل يبحث ، في النهاية ، عن مصالحه.
فإذا وفق المنظور والمتوقع ، هذا النظام الحالي هو الباقي في حكم دولة مالي للفترة القادمة ، لذا لا ينبغي الاستهانة به . وإذا كان النظام نفسه قادرا على تحدي مجموعة (CEDEAO ) وفرنسا والغرب عموما ، فعلينا نحن أيضا احترامه والتعامل السليم معه حتى و لو لم يعد يحكم إلا العاصمة "باماكو" في أسوء الظروف.
- إن أولئك الذين يلوحون بإغلاق الحدود لا يستبينون المصاعب و المخاطر المترتبة على ذلك .
فمن حيث الواقع المعيش لا توجد حدود حقيقية لدى الناس و لا في أذهانهم . و حتى لو كان من الممكن أن يميز البشر العقلاء تلك الحدود القانونية النظرية ، فماذا سيكون بالنسبة للحيوانات التي لا تعرف سوى "منهلها" بالغريزة ومراتعها المعتادة .
فكيف سيمكن السيطرة على تلك البهائم وامساكها عن الداخل المالي، احتراما لقرار بغلق الحدود غير المسيجة أصلا أم أنها ستترك نهبا دون مرافقة أصحابها.
و في هذا الصدد يتنزل الطرح بضرورة مقاربة جديدة للتنمية الحيوانية على غرار ما هو سائد في الخارج ( Élevage intensif) ، وذلك من حيث تصور حول: الأعداد و الحضانة والأعلاف...إلخ
ثم إن الانكفاء إلى الداخل الوطني وترك الجوار المالي مسرحا حرا لتمركز الجماعات العسكرية أو الفوضوية سيكون بمثابة شبه انتحار مؤجل لأن من شأن ذلك أن يرسخ أقدام تلك الجماعات في قواعد حدودية ستشكل بسرعة عامل جذب و غواية . و لن يعدم من يلتحق بها من المواطنين المطحونين أو المغامرين أو المفتونين بالبواعث الدينية المشوهة و المخلطة أو من ضمن أولئك المدفوعين بالمكامن الدفينة للانتقام من المجتمع أو لمخاصمة التاريخ ؛ وحينها لكل واحد أن يتصور ما سيكون عليه الأمر بعد مدة .
فالدفاع عن البلد يتم بالأولوية من خارجه ولا سيما من دولة مالي المجاورة.
ثم إن الانغلاق دون مالي هو تبدبد لمكسب مجموعة G5 التي هي مبادرة موريتانية في المقام الأول .
تمر المنطقة هذه الأيام في عمومها بأوقات صعبة يتسم فيها الاستقرار بالهشاشة و المستقبل بعدم اليقين ويزيد من كل ذلك خلفية دولية عامة مضطربة على نحو غير مسبوق بل تحمل بذور الانزلاق نحو تهديدات وجودية للبشرية نفسها في مجملها .
لقد حافظت بلادنا ،حتى الآن ، على استقرارها بالسير على خيط رفيع و باتباع استراتيجية عامة ناجحة، ذات عناصر متماسكة تم تطبيقها بجدارة ؛ لكن الاستراتيجية تحتاج دوما للتحيين والتكميل بالنظر إلى دينامكيات تبدل الأحوال و تغير طبيعة التهديدات وبيئة الصراعات .
و مع ذلك تبقى أكبر ميزة للبلد هي طبيعته الصحراوية وانعدام الغابات والمناطق الوعرة التي قد يتمترس فيها ويختبئ الخارجون على السلطة . غير أن المدن الكبيرة الحديثة أضحت تشكل نوعا من الغابات التي قد تخفي داخلها التهديدات في حال التسرب إليها.
لذا ينبغي الحرص دوما على خوض المعركة وقائيا ومن الخارج وليس بالانكفاء للداخل نراقب ما يجري وننتظر قدومه.
و في الختام، تبقى الأنظار معلقة اليوم على اجتماعات انواكشوط بين الطرفين الموريتاني والمالي من أجل بلورة استراتيجيات عامة وآليات ميدانية مناسبة للاستجابة للتحديات الماثلة وتفادي مثل الحوادث المأساوية الماضية .
و دون الدخول في التفاصيل و المضامين الممكنة أو المحتملة لهذه الاجتماعات المهمة والحاسمة إلا أنها ستكون على الأرجح محكومة بسقفين متعارضين وحل معضلة ألا وهي :
ضرورة النجاعة و الجدوائية التي تتطلب الاقتراب والحضور الميداني و واجب الإبتعاد حتى نحترز من أن نكون طرفا في النزاعات الداخلية المالية أو إعطاء المبرر باستهدافنا من أي جهة.
اللهم إنا نسألك اللطف فيما جرت به المقادير .
السلام عليكم