ما يقدمه أيُّ مجتمع من عناية لطبقاته الهشة وفئاته الضعيفة يتناسب بشكل مطرد مع ما يحققه من تقدم حضاري، وكلما ازداد المستوى الحضاري للمجتمعات كلما تهذبت نظرتها تجاه الضعفاء وتطورت عنايتها بهم، ومفعول تلك النظرة الإيجابية لا يتوقف فقط عند إسعاد تلك الفئات ونقلها من حالة العزلة والإقصاء إلى حالة الرضا، والتفاعل الإيجابي الذي تشعر معه بكونها جزءا من المجتمع لها ما لأفراده وعليها ما عليهم، بل يتجاوز ذلك ليمنحها القدرة أيضا على المشاركة في معارك المجتمع الحاسمة بكل ما تمتلك من طاقات وما تتمتع به من قدرات، ولا ريب أن الاهتمام الملحوظ بالطبقات الهشة والفئات المهمشة_ في هذا العهد الميمون الذي نتفيأ ظلاله الوارفة _ لهو أكبر دليل على أن الأمة الموريتانية بدأت تأخذ مكانتها اللائقة بين الأمم والمجتمعات المعاصرة ، كما أن اهتمام الدولة بفئات اجتماعية تُركت مقصية عقودا من الزمن تصارع قدرها وحيدة لا لشيء إلا لأنها من ذوي الاحتياجات الخاصة لدليل على أن العهد الجديد بات يختطّلنفسه خطًّا مستقلا في التنمية والإدارة، وتأتي القيمة الحقيقية للعناية الملحوظة بهذه الفئات من كونها استراتيجية تضرب بسهم وافر ـ زيادة على ما ذكر ـ في معركة التنمية؛ ذلك أنه كلما تضاءلت فرص التنمية كلّما زادت نسب الإعاقة وتعددت أصنافها، فالدراسات المتخصصة تشير إلى العلاقة القوية بين الفقر وظهور الأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ ففي دراسة صادرة عن البنك الدولي قبل سنوات أفادت بأن نصف مليار شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة حول العالم ، هم ممن يعيشون في فقر مدقع ، وتتوقع أن تصل نسبتهم في العالم حدود 15% من ساكنة العالم ، وتشير دراسات أخرى إلى أن حظ القارة الإفريقية وحدها من هذه النسبة غير يسير ، وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن نسبة 70% من ذوي الإعاقة البصرية و 50% من ذوي الإعاقة السمعية في العالم من أبناء القارة السمراء حيث يضرب التخلف بأطنابه في جهاتها المتعددة ، مخلفا تركة ثقيلة تتمثل في الفقر المدقع وسوء الخدمات العامة .
وبما أننا جزء من هذا العالم الذي لا يزال في نزال مستميت ضد التخلف وما يترتب عليه من جهل وعوز، فإنه من واجبنا أن نتحرك نحو هذه الفئة لانتشالها من عالم الضياع ووضعها في المكان اللائق،ومدها بسبل التكيف ووسائل الاندماج في المجتمع، ومنذ الاستقلال الوطني لم تشهد البلاد أي اهتمام رسمي _على الأقل _ بهذه الفئة قبل هذا العهد المبارك حيث افتتحت السيدة الأولى قبل أشهر مركزا للتوحد ، وها هي المدرسة الوطنية للعمل الاجتماعي تعلن عن نفسها كأول مؤسسة رسمية تربوية في طول البلاد وعرضها تتخصص في تكوين وتأطير متخصصين قادرين على التعامل مع هذه الفئة المتضررة من إهمال الأنظمة السابقة منذ الاستقلال وحتى الإعلان عن هذه المشاريع المهمة، فلقد افتتحت هذه المدرسة مرحلة من تاريخ الوطن سيحتفظ بها التاريخ في ذاكرته الأبدية، حيث باشرت التكوين في السنة الدراسية الجارية على سبعة تخصصات تصنف كلها ضمن الخدمة في العمل الاجتماعي، ومن بينها : لغة الإشارة ، وكتابة برايل، والتوحد، وهي تخصصات تدخل ضمن ما يعرف بفئات التربية الخاصة .
إن هذه الجهود التي تقوم بها الآن إدارة المدرسة المذكورة تعتبر جهودا استثنائية وغير مسبوقة، وستتجاوز مجرد التكوين على هذه التخصصات لتفتح الآفاق واسعة أمام مرحلة من العناية المركزة من شأنها أن تكشف عن الحجم الحقيقي لهذه المعاناة على مستوى الوطن، حيث لا يزال تعداد تلك الفئة يكتنفه الجهل ويلفه الإهمال ؛ إذ لا توجد أية جهة تعرف البتة حجم الإعاقة الأكثر حضورا على مستوى الوطن ونسبتها من التعداد العام، وليست ثمة أية جهة يمكنها أن تحدد نسبة الهدر الوطني التي تنتج عن إقصاء هذه الفئة، وعن حرمانها من حقوقها كاملة في التكوين والاندماج على مستوى الشغيلة الوطنية لخدمة مجتمعها، وستساعد هذه الجهود كذلك في خلق توجهات إيجابية لدى أصحاب هذه الفئة تجاه أنفسهم بحيث سيكتشفون أنهم ليسوا لعنة تتقاذفها الأقدار، بل هم خلق من خلق الله ، ومن بينهم أناس يتمتعون بقدرات واستعدادات مهمة ، وهم قادرون على تطوير أنفسهم إن توفرت لهم الأرضية اللازمة، وسيكونون فاعلين في المعركة التي يخوضها مجتمعهم ضد التخلف وتركته الثقيلة ، وستخلق تلك الجهود اتجاهات إيجابية كذلك لدى أسر ذوي الاحتياجات الخاصة عندما يكتشفون أن المعاق شخص غير مكتوب عليه أن يظل تحت الرعاية طيلة حياته بل هو قادر على أن يستقل بذاته، وأن يساعد في خدمة مجتمعه، وسيكتشف المجتمع لاحقا أن الثقافة التي تجعل من الإعاقة عيبا يجب ستره وإخفاؤه عن الناس، وأن قدر المعاق الحرمان والتهميش والمعاناة الدائمة، ثقافة خاطئة وغير جديرة بالاحترام ، كما أن فهم أسباب الإعاقة والظروف التي تكتنف ظهورها سيساهم هو الآخر في التقليل من حدوثها، ويعجل بالتدخل المبكر لتلافي تطوراتها، والحد من تأثيراتها الدائمة على الأفراد والمجتمعات .
إن البرامج التي بدأ تطبيقها في المدرسة الوطنية للعمل الاجتماعي هذه السنة ستكون كفيلة بتجهيز أساتذة ومعلمين قادرين على تكوين وإعادة تأهيل الصغار من ذوي الاحتياجات الخاصة في ربوع الوطن، مما يعني أن مرحلة جديدة من الأمل تنتظر كثيرا من ذوي الإعاقة بمختلف فئاتهم ليكونوا جزءا فاعلا في مجتمعهم وقادرين على امتلاك الأهلية لمشاركة غيرهم في ما يترتب عليهم من واجبات وما ينتظرهم من حقوق..
فهنيئا للوطن عند ما يبسط ذراعيه لأبنائه من غير استثناء، وهنيئا لأصحاب تلك الفئات الذين سيدخلون ولأول مرة في تجربة التكوين والتدريب والتأهيل ليتمكنوا من إعادة اكتشاف ذواتهم من جديد.
يحيى ولد البيضاوي