اختتم قبل أمس المؤتمر المنظم من طرف الشيخ العلامة عبدالله بن بيه مع " مؤتمر أبوظبي للسلم " و بالتعاون مع الحكومة الموريتانية تحت عنوان: " بذل السلم للعالم " .
إن إنعقاد مؤتمر إسلامي إفريقي بهذا الحجم و الحضور في العاصمة " إنواكشوط " يشكل ، في حد ذاته ورغم كل شيء ، مكسبا معتبرا للبلد .
كما أن انعقاده تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني وحضوره شخصيا لافتتاحه يوم الثلاثاء 8 فبراير 2022 م يعتبر هو الآخر أمرا في محله بل ذا دلالة لافتة .
هكذا ينبغي أن تكون موريتانيا أو لا تكون . أقصد ضرورة أن تكون بلادنا مستندة إلى نقطة ارتكاز قوتها الحقيقية و متمترسة داخل بؤرة مجدها التاريخي الأثيل.
بداهة لا يمكن لموريتانيا أن تزاحم جيرانها بشريا أوعسكريا أو اقتصاديا إلى غير ذلك من المقومات المادية ، لكنها يمكن أن تنافس وتتصدر على المستويات الثقافية و الدينية و الروحية .
في هذا المضمار وحده ، نحن أصحاب حضور بل قوة فاعلة يقوم تأثيرها على واقع ماثل يستند إلى ماض زاخر .
فبلادنا مشهورة بكونها مرجعية روحية وعلمية ذات أثر خالد و تتدثر بمشروعية تاريخية في هذا الصدد ، لا تكاد تبارى أو تندرس .
لقد شكل " الصنف " البشري الشاغل لهذا الفضاء "الموريتاني" بمفهومه الواسع وبامتداداته المختلفة ( في الساحل/الصحراء) استثناء حضاريا ، خرج على مألوف "القوانين الخلدونية" وحتى على المعهود في استقراء الصيرورات البشرية العامة .بل يمكننا أن نتحدث دون مبالغة عن وجود "ماكينة" تحويل حضارية هائلة كفؤة وفعالة . إنها "ماكينة " متعددة الوظائف و وافرة العطاء .
هنا وهنا فقط وبشكل مطرد و أحيانا ضمن الجيل الواحد ، حصل ما يلي :
- استيراد (دعوة و دعاة ) و تصدير (دولة و أمراء ) ؛
-استيراد الأسانيد والروايات وتصدير الحفاظ والقراء ؛
- استيراد المتون وتصدير الفقهاء ؛
- استيراد الأوراد و الأحزاب و الأسانيد و تصدير المشائخ و الأولياء الصالحين ؛
- استيراد المعاجم والدواوين وتصدير علماء اللغة وفحول الشعراء.
إنه تصدير لم يخضع أبدا لقانون " رد الفعل " في الفيزياء (أي المساواة في القدرة و التضاد في الإتجاه ) وإنما كان مضاعفا ومنتشرا كأشعة الشمس تنبعث في كل الاتجاهات .
لذا كان علماؤنا ومشائخنا وشعراؤنا أعلاما ونجوما أين ما حلوا وارتحلوا ؛
لقد بزوا الأقران في منارات العلم العريقة و في دواوين الملوك ، بجمعهم لما تفرق في غيرهم . فالواحد منهم "رجل أمة" موسوعي الثقافة والعلم فهو عارف ومكاشف و عالم وشاعر و خبير سياسي....إلخ.
وعلى سبيل المثال لا الحصر كان منهم من راسلته الملكة فكتوريا عبر رئيس وزرائه اللورد "كلارندون" ودعته لعاصمتها ،وغيره ذهب في سفارة للباب العالي (السلطان العثماتي) إلى ملك السويد والنرويج وآخرون كانت لهم الحظوة العظمى في بلاطات العلويين والهاشميين و السعوديين وإمامية اليمن وسلاطين الأمم السودانية المختلفة ....إلخ وهناك من أكمل للزبيدي في" تاج العروس " أو انشأ المدارس في العراق أو اختط المدن والرباطات...إلخ
الالتفات من جديد لهذا الميراث بل الاستثمار فيه من أجل بعث الأستاذية العلمية ( الإسلامية واللغوية) والمشيخية الروحية الدينية للبلد وأهله في أمم إفريقيا خاصة بل في كل أرجاء العالم الإسلامي هو رهان كاسب وعودة للثقة بالذات و حضن حصين ( أو حصن حاضن ) وحيازة لأسباب قوة ناعمة جبارة تتهافت عليها الدول ذات الطموح والأجندات الوطنية الفاعلة.
إننا بمحاظرنا القرآنية و العلمية واللغوية ومؤسساتنا الجديدة الأهلية والرسمية وبعلمائنا ودعاتنا المشهورين وطنيا و دوليا من مختلف المشارب والإتجاهات إذا أضفنا إليهم رصيد التصوف الذي هو الشكل الأقدم والمعهود للممارسة الدينية في هذه الربوع (الإسلام الإفريقي) سيمكننا أن نخلق قطبا إسلاميا وسطيا متخصصا فاعلا مقدرا ذا حاضر وارث لماض زاهر .
فعلى سبيل المثال قد يمكن توظيف رصيد وميراث الطرق الصوفية ذات المشايخ من ذوي الجذور الموريتانية سواء من قادرية أو تجانية أو شاذلية (بتفريعاتهم المختلفة) في التغطية شبه الكاملة لمعظم أمم إفريقيا المسلمة و لا سيما في الأقاليم المضطربة حاليا في الساحل والصحراء وإفريقيا الغربية عموما ، مما يضفي على البلد وسياسته الخارجية حضورا وألقا ونفوذا نتيجة امتلاكه أدوات تصرف وهامش تحرك وتأثير على الأرض وفي العقول والأذهان ( وتلك هي القوة الناعمة في مقابل القوة الخشنة ) . ولا يعني نقص الظهورية اوالانكفاء المرحلي و السبات الحركي لدى بعضهم عجزا عن أداء الواجب او استرجاع بعض من الدور ضمن واجب مطلوب كن خلال مثل هذه الرؤية لأن الرصيد موجود وكامن وليس بمعدوم أو متلاش .
و من المفيد الإشارة إلى أن الوعي بأهمية مثل هذه الأدوار و الفاعلين فيها والتأثيرات الناعمة العميقة لها هو أمر حاصل لدى القريب من الدول و حتى لدى بعض القوى الإقليمية البعيدة وهو موضوع تجاذب وتنافس بينها جميعا ؛ لذا لا بد من المبادرة والمزاحمة على نحو ما رأينا مؤخرا. وكما يقال من غاب غاب سهمه ومن حضر قسمنا معه ؛ وموريتانيا إذا حضرت وابدت محياها فهي صاحبة الحظوة والأقدمية على ما سواها لما أسلفنا و لعوامل أخرى ليس ضروريا تبيانها. غيرأن ذلك يتطلب رؤية واضحة والتزام أكيد وشامل و مفارق لتفاصيل المشهدية المحلية.
إن إهتماما مستجدا من الدولة بمثل هذا الإشعاع الروحي و المركزية الثقافية للبلد في الإقليم ، لا يعني أبدا فهمه على اعتباره إعطاء ميزة لأحد على غيره فالمعرفة والدين والقرب إلى الله هو لمن علم و عمل وتقبل منه ؛ و إنما هو استثمار لرصيد موجود لبناء صرح جديد .
كما ينبغي الإشارة إلى أن الدولة المنشودة دائما هي الدولة العصرية دولة المواطنة وتكافؤ الفرص والمجتمع المدني القوي بمؤسساته الحزبية والجمعوية والمدنية الفاعلة والراسخة. لكننا أيضا و في دول ناشئة كما هو الحال في معظم إفريقيا ينبغي القبول دائما بالمقاربات الهجينة والمساكنة بين البني التقليدية والعصرية (السنغال وبوتسوانا مثلا) وأن تكون بالنسبة لنا على الأقل في موريتانيا هناك مزبج من الدولة المدنية و"المدينية".
لقد رأينا سالفا كم عندنا من رصيد من استقراء ميراث الزمان و استحضار عبقرية الإنسان في هذا البلد لكن ميراث الموقع وعطاء المكان لا يقل هو الأخرى أهمية.