ظلت حدودنا مع مالي-منذ الاستقلال- تشهد من حين لآخر مناوشات وشجاراً بين الرعاة والتجار المتنقلين عبر حدود البلدين؛ لكن ذلك لم يمنع انسيابسية التنقل واستباب الأمن على طول المنطقة الحدودية بشكل عام.
ومع العام 2010 ستتغير الكثير من المعطيات؛ نتيجة لعوامل عديدة منها : سيطرة الحركات الجهادية على الشمال المالي؛ واتساع حركة التمرد في مناطق عديدة وحتى داخل قطاعات عسكرية حساسة .
بحكم العامل الجغرافي أصبح الجيش الموريتاني مًجبراً على خوض حروب داخل أراضي الجارة الشرقية؛ وهو ماعرض بالضرورة المصالح الموريتانية لمخاطر عديدة.
في العام 2012 قتل الجيش المالي ثمانية موريتانيين من جماعة الدعوة والتلبيغ بصورة بشعة؛ احتجت حينها وزارة الخارجية الموريتانية وطالبت بتحقيق تكون موريتانيا طرفاً فيه؛ لكن ذلك التنديد لم يلق اهتمام الدولة المالية؛ التي فضلت التعامل بمنهج التجاهل مع حادثة في غاية الخطورة.
قبل ثلاثة أيام تكرر السيناريو ذاته؛ حيث قُتل سبعة موريتانيين من مختلف مكونات الشعب وبأسلوب همجي.
لم يستطع سكان الحوض الشرقي -كسائر المواطنين - تحمل الفاجعة؛ فخرجت مظاهرة بعدل بكرو في احتجاجات عفوية على حادثة تعتبر ضربة للأمن الخارجي الموريتاني في الصميم؛ وانتقلت تلك الاحتجاجات إلى ساحة الحرية أمام القصر الرئاسي.
تجاوبا مع موجات التنديد أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً يستنكر قتل مواطنينا بهذه الطريقة الفظيعة؛ وأوفدت وزراء للبحث في أسباب الجريمة وتوقيف مرتكبيها وعدم تكرارها في المستقبل؛ وهذه خطوة مهمة؛ إن تلتها خطوات أخرى تستجيب لمتطلبات الوضع الميداني؛ خصوصا وأن هذه الحادثة المدانة؛ تأتي في سياقات مختلفة عن كل ما سبقها؛ من بينها حصار مالي من قبل مجموعة CEDEAO ؛ ودخول الدب الروسي لصحراء ملتهبة ومؤهلة لمزيد من الاشتعال.
المؤكد أن الأراضي المالية ستكون مسرحا لألعاب استخباراتية قذرة في معظمها؛ ما يدفعنا لطرح سؤال جوهري .هل تمتلك موريتانيا آليات استخباراتية للتأقلم مع المتغيرات الجديدة؟
تتطلب منا الإجابة عن هذا السؤال محاولة فهم أساليب الاستعلامات Renseignement / intelligence لدى المخابرات الموريتانية والتي يبدو أنها لاتزال بدائيةً في معظهما؛ وهو ما اتضح من خلال قتل تنظيم القاعدة لعميل الاستخبارات الموريتانية سنة 2012.
يرى بعض المهتمين أن قتل موريتانيين بهذه الأساليب البشعة؛ في ظل تولي الجنرال حنن ولد سيدي لحقيبة الدفاع؛ يعكس اخفاقات كان بالإمكان تفاديها؛ بحكم خبرة الرجل ودرايته بساكنة المناطق المحاذية للحدود .
بيد أن ثمة من يرجع أسباب تلك الاخفاقات الأمنية لعدم وجود استعلامات قادرة على مواكبة المستجدات في المنطقة؛ فغياب التنسيق بين مراكز البحث think thanks والقوات المسلحة؛ أدى لاختلالات واضحة في رسم المقاربات التي يتبعها الجيش الموريتاني في التعامل مع التحديات التي يفرضها غياب السلطة في مالي؛ ودخول لاعبين جدد لحلبة صراع بات مفتوحاً على كل الاحتمالات.
لقد بادرت بعض جيوش المنطقة في وضع خطة مكنتها من قطع خطوات متقدمة في العمليات الاستخباراتية؛ نتيجة لاستغلالها للخبرات المدنية؛ وهذا ما اقترحه الباحث "أرسلان شخاوي" في مقال له بمجلة صدى؛ المهتمة بالأمن الإستراتيجي حين قال: " ...بيد أننا بحاجة لمقاربة أكثر تقدمية..وتحول نحو عمل استخباراتي حقيقي".
العمل الاستخباراتي الحقيقي هوجزء من مقومات الدولة المعاصرة ووسيلة للتحكم في التحديات التي تفرضها السياسات القارية والإقليمية؛ كما يتضح من كتاب : "أسياد الجاسوسية الجديدة" لمؤلفه.Stephen Gery .
موريتانيا مطالبة أكثر من أي وقت مضى بوضع خطة أمنية وقائية للتعامل مع كل المستجدات في مالي؛ وربما نحتاج لتطبيق تجارب دول في الشرق الأوسط لإيجاد من يتولى عنا حرباً بالوكالة؛ في دولة أصبحت كل وسائل جيشها (زي عسكري؛ سيارات؛ حاملات جنود؛ مدرعات) مستباحة من طرف عصابات تجوب المنطقة؛ الأمر الذي يعرض سكان المناطق الحدودية ؛لاقدر الله؛ للقتل بالأساليب ذاتها؛ في ظل إصرار جهات دولية على الضغط على نظام العقيدعاصمي كويتا للانسحاب من السلطة مهما كانت الوسائل المحققة لذلك.
إن تجاوز الخلافات الداخلية والخطاب الشرائحي؛ هو جزء مهم من تحصين جبهتنا الداخلية؛ التي ستمكننا من مواجهة كل الأخطار الخارجية؛ فالمذبحة الأخيرة التي مُثلت فيها جميع الشرائح الموريتانية؛ تُعد رسالة بالغة الدلالة على ضرورة اتخاذ إستراتيجية وقائية تشاركية تُسند فيها أدوار للجميع (عسكريين وسياسيين ومجتمع مدني..) كل حسب إمكانياته؛ وإلا فإننا جميعاسنكون ضحايا مفترضين لآلية القتل في جمهورية المجازر الجديدة.
د.أمم ولد عبد الله