تيسيرا للذين قد لا تسمح انشغالاتهم وعلاقتهم بالقراءة بإكمال النص, أوجزت بعضا من أهم النقاط الواردة في الورقة :
I. اللغة قناة سقاية العقول بالمعارف, والتدريس بلغة لم تكتسب بعد تعليم بالتنقيط, وإن استخدام لغة ما كلغة تدريس لابد أن يكون لاحقا لاكتسابها لا سابقا عليه.
II. الاكتساب المجتمعي للغة ما, وهو الذي يؤهلها لأن تكون لغة تدريس في المراحل التعليمية الأولى لأنه متاح لجميع الأطفال فبل سن التمدرس, لا يتأتى دون توفر أحد عاملين أن تكون هذه اللغة لغة التخاطب في البيوت أو أن تكون لغة الحديث في الشارع.
III. باستخدامنا للفرنسية كلغة تدريس أو غيرها من اللغات التي لا تتوفر لها ظروف الاكتساب المجتمعي في بلدنا نكبح عملية التعلّم, ونعيق تطور الأداء الذهني لأبنائنا, ونهيئ ظروف استفحال التسرب المدرسي.
IV. أبناء الأقليات اللغوية ضحية مزدوجة للتعليم بالفرنسية, فهو يقطع عليهم سبيل العلم وسبيل إتقان العربية التي يكتشفون لاحقا أنها لا غنى عنها لممارسة المهن الليبرالية في هذا البلد.
V. إننا في علاقتنا بالعربية لا نعدو أن نكون أحد أمرين, أن ننتسب إليها أو أن ننتسب إلى ما هي مطيته الوحيدة, وإن مسلمي العالم يتقاسمون رجاء أن يجدوا جيرانا يذللون لهم مطية أحسن الحديث, وهي بإجماع المؤمنين أجزل الهدايا, وإن بعض الحساسية مرضي نربأ بقلوب المؤمنين عنه.
VI. يجب أن نضع اللغات الأجنبية موضعها وأن ننزل العلم منزلته, فهو ليس نافلة التنمية بل صلاتها الوسطى. وإن أقصر طريق لقطع طريق التنمية هو أن نضحي بالفهم العميق للعلم قربانا للغات الأجنبية.
VII. إن اكتساب لغة أجنبية لا يمر بالضرورة بالتدريس بها في المراحل الأساسية والثانوية وإلا لما كان ملايين الناس عبر العالم تعلموا الانكليزية في بلدان لا تُدرس بها.
VIII. لاكتساب اللغات الأجنبية يكفي أن نرسم خطة محكمة لتدريسها تشمل عملية تحقق دورية من المستويات تنظمها جهة مركزية مستقلة عن مؤسسات التدريس, وآلية لتعويض التأخر. تجدون مقترحا بهذا الخصوص في نهاية الورقة.
IX. لم يعد واردا التفريق بين الفرنسية والانكليزية في المعاملة التربوية, فإذا كانت الفرنسية يشفع لها موقعنا الجغرافي وجيراننا, وتاريخنا وموروثنا الإداري فإن الانكليزية يفرضها الانتشار والنشر. ورغم علاقتنا العاطفية العميقة بالفرنسية, فإن العقلانية تقتضي أن يُنْفَذ في القلب حكم العقل.
X. إن العائق اللغوي شبكة صممت لتصطاد أبناء الفقراء غير المتعلمين, وتخلق سبقا جائرا لأبناء المتعلمين والطبقتين المتوسطة والغنية لأن آباءهم يمتلكون مفاتيح العائق, ولا يوجد في بلدنا ظلم اجتماعي أعظم منه, فإذا كنا صادقين في سعينا للعدالة الاجتماعية فهو أول ما تجب إزالته.
XI. إن مدرسي المواد العلمية يعرفون أن العائق اللغوي الذي حال بين التلاميذ والكتب المدرسية وبين آبائهم والقدرة على مساعدتهم هو السبب الأساسي لاستفحال التعليم الخاص, فهو بقرتهم الحلوب, وهكذا جعل بعض منهم من نفسه درعا لحماية العائق اللغوي, كلما أرادت نقابة أن ترفعه مطلبا اعترضوا والتمسوا المعاذير. وهذا هو خطر عدم الإقساط عندما تتناقض المصالح والمسؤولية.
XII. إن أي إصلاح لا يزيل العائق اللغوي لن يكون له تأثير يذكر على المستويات لأنه لا يهيئ ظروف النفاذ العلمي. فهو لا يعدو أن يكون محاولة استغلال لرصيد الثقة الذي يمنح طبيعيا لكل جديد, وسيتبين لاحقا أنه مجرد كسب للوقت وإعادة قولبة للفشل.
XIII. إن الدور الأهم في حماية العائق اللغوي يلعبه جيش المتخاذلين الذين لا يرضاه منهم أحد ولا يريد منهم أحد أن يعرق له جبين أو قلم أو أن تغبر له قدم في سبيل إزالته.
XIV. من فضلكم أكملوا ما نقص, وفصلوا ما أوجز, وبينوا ما أعيتني الحجة لكي لا تدعوا للمجلس الأعلى للتهذيب هذا ووزيره ذريعة لإبقاء العائق إن كانت لديهم نية لذلك, فإنكم وإن تطاولت ستسألون.
1. اللغة صمام العقول
التعليم هو عملية تواصل تهدف إلى نقل المعارف وبناء البنية الذهنية المناسبة إعدادا للفرد ليكون قادرا على لعب دوره التنموي. أطراف عملية التواصل هذه هي المعلم والمتعلم وكتب التدريس وتشكل اللغة قناتها الأساسية. فبقدر إتقان المعلم والمتعلم للغة التدريس تتحدد وتيرة تدفق المعارف وفاعلية عملية التعليم. وإن استخدام لغة لم تكتسب بعد كلغة تدريس, يكبح عملية التعليم من خلال خنق قناة التواصل, فيعيق انسيابية تدفق المعارف, ويحجم المعلومات المكتسبة ومستوى عمق فهمها. فنحن باستخدام لغة لم تكتسب بعد في التدريس نعيق الهدف الجوهري للعملية التعليمية ونضع مطبات غير ضرورية, يعجز كثير من الأطفال عن تجاوزها, فنزيد التسرب المدرسي ونحول بين كثير من أبنائنا ومعارف ضرورية في حياتهم المستقبلية.
وإن تطور الأداء الذهني للأفراد يرتبط ارتباطا وثيقا بحجم المعارف المكتسبة خلال كل مرحلة من مراحل العمر. فإذا أعقنا وتيرة اكتساب المعارف بخنق قناة التواصل من خلال استخدام لغة لم تكتسب بعد, فإننا بذلك نعيق تطور الأداء الذهني للمتعلمين. فباستخدامنا للفرنسية أو غيرها من اللغات التي لا تتوفر لها ظروف الاكتساب المجتمعي في بلدنا نكبح عملية التعلّم, ونعيق تطور الأداء الذهني لأبنائنا, ونهيئ ظروف استفحال التسرب المدرسي والخروج من العملية التعليمية دون الحد الأدنى من المعارف الضرورية للحياة ولإسهام الفرد في العملية التنموية, ونحكم على الغالبية العظمى من الذين لا يعرف آباؤهم الفرنسية ولا يستطيعون دفع حصص خارج إطار التعليم النظامي بالفشل المدرسي, وبتدهور نوعية التعليم للقلة الباقية, دون أن يكون لذلك تأثير يذكر على تعلم الفرنسية, لأن الفرنسية يمكن أن تكتسب دون أن تستخدم كلغة تعليم حالها في ذلك حال سائر اللغات الأجنبية.
2. لغة التدريس والاكتساب المجتمعي
إن الاكتساب المجتمعي -المتاح لجميع الأطفال- للغة ما في مجتمع معين لا يتأتى دون توفر أحد عاملين أن تكون هذه اللغة لغة التخاطب في الغالبية الساحقة من البيوت أو أن تكون لغة الحديث في الشارع. دون توفر أحد هذين العاملين يبقى الاكتساب الجماعي للغة ما مستحيلا, ويبقى التدريس بها إقصاء متعمدا لأولئك الذين لا تسمح الظروف المعرفية أو المادية لآبائهم بتعليمهم إياها, وتعطيلا مقصودا للمصعد الاجتماعي. وإن الاكتساب المجتمعي لا يتوفر موضوعيا إلا للغة العربية التي في نسختها العامية هي لغة الشارع أو إحدى لغاته في جميع مقاطعات الوطن ويستطيع كل طفل أن يكتسبها من أقرانه في الشارع وإن التدريس بغيرها حجب للعلم خلف ضباب اللغة.
على محبي الفرنسية - وأنا أحدهم, وهي تستحق كل الحب, فهي لغة جميلة ترتسم الابتسامة على وجوه أهل الأرض حين تدغدغ آذانهم. تضوع من قيود تصريفها رائحة الحرية, عبق نضالات الإنسان من اجل الإنسانية, تتشبع بالعقلانية تنفثها مفاهيما إلى لغات العالم, ولا شك أن معرفتها تساعد في حبك وترسيخ نسق التفكير العقلاني المجرد - والعاملين على نشرها أن يدركوا أنهم لا يقدمون لها خدمة بزرع كراهيتها عند أطفال تحول بينهم والعلم وعند آباء يرون أطفالهم يكاد العلم لا يتراءى لهم خلف الضباب الكثيف للفرنسية.
وإننا نعلم جميعا - كتمنا ذلك أو عبرنا عنه - أن اكتساب لغة أجنبية لا يمر بالضرورة بالتدريس بها في المراحل الأساسية والثانوية وإلا لما كان ملايين الناس عبر العالم تعلموا الانكليزية في بلدان لا تُدرّس بها. وإنما لاكتساب لغة أجنبية يكفي تدريسها وفق خطة محكمة, وأن نضمن حصول المتلقين على المستوى المطلوب من خلال عملية تحقق دورية من المستويات تنظمها سلطة مركزية مستقلة عن مؤسسات التدريس, مع إلزام الذين لم يحصلوا على المستوى المحدد لمرحلتهم الدراسية بدورات صيفية تكميلية مكثفة للحصول على المستوى المطلوب والمتابعة خلال السنة اللاحقة مع زملائهم دون صعوبات. وسأعود لتفصيل هذه الآلية في الجزء الأخير من هذه الورقة.
إن كل لغة تكتسب تفتح نافذة على المعرفة, تتسع باتساع ما أنتج بها وينتج. وإن الفرنسية تفتح نافذة واسعة على المعرفة لعلها الأوسع بعد الانكليزية خاصة في الإطار الجغرافي والتاريخي لبلدنا. ولا يتعلق الأمر هنا بمحاولة تحجيم أهمية اكتسابها وإنما يتعلق بالعمل على إخراجها من وضعية العائق المعرفي إلى وضعية السّلّم إلى المعرفة, وذلك من خلال إزاحتها من وضعية القضبان التي تسد منفذ أبنائنا إلى المعرفة عبر استخدامها كلغة تدريس قبل اكتسابها - وضعية هي في غنى عنها ولن تورثها إلا كراهية لا تستحقها - إلى وضعية النافذة المعرفية المشرعة من خلال تأمين اكتسابها عبر تعليمها وفق خطة محكمة. وإن استخدام لغة ما كلغة تعليم لابد أن يكون لاحقا لاكتسابها لا سابقا عليه.
3. أبناء الأقليات اللغوية.. الحرمان في ثوب التعاطف
إن أبناء الأقليات اللغوية ضحية مزدوجة للتعليم بالفرنسية, فهم كأبناء المجتمع الحساني تكبح الفرنسية التعليم عندهم, وتعيق تطور أدائهم الذهني, وتزيد التسرب المدرسي, بوقوفها حاجزا بينهم والعلم من خلال آلية المخنقة اللغوية التي فصلت في الجزء الأول من هذه الورقة, ولكنها زيادة على ذلك تخصهم بجعلهم يعتقدون أن بإمكانهم الاستغناء عن معرفة العربية, فتمر الطفولة ومراحل التعليم الثانوي والجامعي دون إعطائها العناية الكافية لاكتسابها اكتسابا جيدا, وهو ما سيحول بينهم وبين ممارسة المهن الليبرالية في مراحل لاحقة من حياتهم لأن من لا يعرف العربية - أو نسختها العامية الحسانية - لا يستطيع أن ينجح في ممارسة المهن الليبرالية في بلد تعداد سكانه لا يصل إلى خمسة ملايين لا يتكلم كثير منهم غير العربية, وقد جرب كثير من أبناء الأقليات اللغوية ذلك ليكتشف أنه بصدوده عن العربية خلال مراحل حياته السابقة, أغلق على نفسه باب الكسب من مهنة يجيدها لأنه قطع على نفسه باب التواصل مع الغالبية العظمى من الزبائن في سوق ضيقة بطبيعتها.
الخديعة أن نقول لأبناء الأقليات اللغوية بدافع الانتهازية السياسية أو التعاطف أو إطنابا في اليسارية إننا احتراما لهويتكم وخصوصيتكم الثقافية سنهيئ لكم الظروف التي ستحرمكم من إتقان اللغة الوحيدة التي ستمكنكم من العيش في بلدكم من المهنة التي أمضيتم عمركم في اكتسابها. الخديعة أن يدفعنا الانطواء الثقافي وبداءة الرأي إلى أن نحمل أبناءنا على خيارات ضد مصالحهم وتجلب الضرر عليهم وعلى المجموعة البشرية التي ينتمون إليها لأنها تهيئ ظروف عزلتهم وفقرهم وتدفع كثيرا من أبنائهم إلى الاستقرار في الخارج لأن عدم إتقانه للغة العربية يجعل حظوظه في النجاح في المهن الليبرالية ضعيفة والوظيفة العمومية لا يمكن أن تستوعب الجميع. الخديعة أن ندفع مؤمنا إلى العزوف عن إتقان المطية الوحيدة إلى أحسن الحديث, إن كل مسلمي العالم يتمنون أن يجدوا جيرانا يذللون لهم مطية أحسن الحديث, فكيف تدفع الانطوائية وبداءة الرأي من يدعون تمثيل الأقليات اللغوية إلى أن يحملوا أبناء الأقليات على الصدود عنها. بداءة الرأي أن ندفع أبنائنا بشحنهم بكراهية لغة شركائهم في الوطن إلى أن يجدوا أنفسهم في الوضعية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها محرجة التي وجد أحد الوزراء فيها نفسه عاجزا عن التعبير بأي من لغات الوطن أمام منتخبيه.
من الخطأ أن نمنع أبناء الأقليات اللغوية الفرص التي لن يصلوا إليها دون إتقان العربية مجاملة لمجموعة قليلة ,ممن اختاروا ضيق أحادية الأفق الثقافي على ثراء تعدد الروافد الثقافية, تدعي تمثيل الأقليات تجوب الإدارات وتتعاقب على المناصب وهم كأمثالهم من أبناء المجتمع الحساني يعيشون على دماء مجتمعاتهم بإبقائهم في عزلة الفقر والجهل والتعصب العرقي والثقافي وهم آخر من يرعى مصلحة أبناء مجتمعاتهم. علينا أن نعطي أبناء الأقليات اللغوية فرصتهم كاملة في إتقان العربية لأنها مطيتهم إلى كثير من الفرص في هذا المجتمع ولأنها بإجماع المؤمنين أجزل الهدايا. علينا أن نحمي أبناء الأقليات اللغوية من بداءة رأي بعض من يتحدثون باسمهم.
4. لغة العلم
إن العلم علمان, علم معلوم وعلم يُعلم. ونقصد بالأول عموم العلم الذي يُدرس ويُستخدم وبالثاني العلم الذي تعكف العقول بأدوات البحث على فهمه وإضافته لمعلوم العلم. وإننا حين نصف لغة معينة بأنها لغة العلم نقصد الثاني, لأن معلوم العلم كل اللغات له لغة إلا التي أصاب أهلها الخور. وإن ما تنتجه عقول العالم في المخابر ينشر بلغة واحدة تقريبا هي الانكليزية فهي وحدها التي تستحق أن توصف بأنها لغة العلم. وإن العربية والفرنسية كغيرهم من لغات العالم لغات لمعلوم العلم لا يُطبع بهما كتاب ولادته, وذلك لضرورة أن يتحقق المجتمع العلمي العالمي أن المولود يستحق صفة العلم والانكليزية هي اللغة المشتركة للمجتمع العلمي العالمي. لا يمكن لأحد من العلميين, ويُقصد بالعلميين المشتغلون بعملية إنتاج العلم, أن يستغني بالعربية أو الفرنسية عن مستوى من معرفة الانكليزية يسمح له بكتابة ما يُنتِج من نتائج وفهم ما يُكتب في مجاله بهذه اللغة.
أهمية الانكليزية بينة, فهي مطية كل من أراد أن يجد له منفذا إلى ما يُنتج من علم, هذا فضلا عن انتشارها الواسع الذي لا يقارن بانتشار الفرنسية, التي يكفي لتدرك بعميق الحسرة حجم انحسارها أن تعبر الحدود الجنوبية الشرقية لفرنسا إلى إيطاليا, إيطاليا اللاتينية التي تتقاسم مع فرنسا شواهق الألب وغائر الجذور اللغوية والدينية, ستدرك حجم انحسارها حين تعجز أن تجد من يَتَرصّع لسانه بهذه اللغة الجميلة. لكنك ستجد من يحدثك بالانكليزية لأنها تجري على كل لسان, وبالعربية لأن العرب أمة كبيرة أبناؤها بكل أرض ينفعون وينتفعون. وإن هذا الانحسار اللغوي يصاحبه انحسار فكري وثقافي وربما يسببه, فقد خَلَفت أفكار زَمّورْ وافّانْكَلْكْروتْ الإنِفَرْساليسم الجمهوري وتربع وَلْبَكْ على عرش فيكتور هيغو, وكل هؤلاء يبشرون بكراهية الأقليات المرئية وبالاسلاموفوبيا بمباركة من كثير من وسائل الإعلام, وفي أحيان كثيرة لا تستحي الحكومة الفرنسية أن تركب موجة الكراهية إن لم تكن مهب الريح التي تسببها, يعزز ذلك أنه في العشرين سنة الأخيرة التي تابعت فيها الحياة السياسية في فرنسا كان اختيار وزير الداخلية من أكثر تياره عداء للأقليات المرئية يكاد يكون لازمة سياسية, وكأنها براءة إلى المجتمع من قيم الجمهورية. وقد بلغ الاستهتار بموروث فرنسا الثقافي والفكري أن انتخب الأكاديميون “الخالدون كما يسمونهم” افانكلكروت عضوا في الأكاديمية “خالدا!”. وأصبح زمور يهيئ نفسه لانتهاك الرئاسة تقوم على إعداد ترشحه إدارية فتية, سارا اكْنَافّو, من نخبة التكوين الفرنسي وكنا نعد الكراهية في فرنسا من متلازمات الشيخوخة والجهل.
تعج الجامعات الفرنسية بالصينيين و البرازيليين في حين يرابط هؤلاء الذين صرف آباؤهم ودولهم قسطا عظيما من زهيد ما يكسبون من أجل تعليمهم الفرنسية وضحت حكوماتهم بالعلم قربانا للفرنسة أمام السفارات في الدول الإفريقية دون الحصول على تأشيرات, فقط لأن فرنسا لا تريد أن تزيد الأقليات المرئية –الأقلية العربية-الإفريقية-. هذا إن تمكنوا من الحصول على تسجيل, وفي هذه ربما تكون الجامعات الفرنسية معذورة, ففي الوقت الذي كان فيه أبناؤنا يصارعون لعبور الفرنسية إلى العلم, كان الصينيون والبرازيليون يغترفون منه دون حائل, وهو ما خلق تباينا في المستوى العلمي لا تعوضه فرنسية فقيرة تشوهها بدع المخارج.
5. اللغات الأجنبية.. من التماس إلى الإتقان دون أن تكون عائقا علميا
إننا نسعى إلى إحقاق حق الطفل الموريتاني في النفاذ إلى العلم وحقه في إتقان اللغات الأجنبية دون أن يكون أحدهما عقبة في سبيل الآخر. وإن لإتقان اللغات الأجنبية أهمية بالغة لما يفتحه من نوافذ إلى العلم والمعرفة والى العمل والتجارة والتبادل, نوافذ تتسع حسب انتشار اللغة واستخدامها العلمي والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها المرء ويمارس فيها نشاطاته الكسبية. وإن إنزال اللغات الأجنبية منزلة دون العلم يبرره أن العلم محدد تنموي لا غنى عنه, وليس للتقليل من أهمية اللغات الأجنبية ودورها في التنمية فهي بالغة الأهمية, وإن إتقانها ممكن دون أن تنتصب عائقا بين الطفل والعلم.
يعرف العاملون على تدريس اللغات الأجنبية وكثير ممن درسها حديثا أن منظومة المستويات, حسب الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات, تتشكل من مستويات سبع, تبدأ بالمستوىA0 وهو مستوى من لم يسبق له الاحتكاك باللغة, وتنتهي بالمستوىC2 وهو مستوى من فتحت له اللغة قلبها وقالبها يعرفها معرفة المتعلمين من أهلها, وبينهما مستويات خمس وهي 1A, 2A, 1B, 2B و1C. وأهم هذه المستويات 2B و1C. ودون الدخول في التفاصيل فان المستوى 2B هو الذي يسمح لمن حصل عليه بمتابعة الدراسة بهذه اللغة دون صعوبات معيقة, أما من حصل على المستوى 1C فقد أصبح متمكنا من اللغة بشكل يسمح له بممارسة كل ما يحتاجه بها, بما في ذلك التدريس. ويعود أصل هذه المنظومة إلى المجلس الأوروبي وهو كما هو معلوم ساحة للتنوع اللغوي, فلغاته الرسمية تتجاوز العشرين. وقد نتج عن الانتشار الواسع لهذه المنظومة اعتبارها مرجعية دولية للمستويات اللغوية .
يجب أن نعرف أن الغالبية الساحقة من الذين يدخلون الجامعات اليوم مستوياتهم في الفرنسية لا تصل إلى 2B, بما في ذلك الاختصاصات العلمية التي موادها تدرس في الثانوية بالفرنسية, وبما في ذلك الطلاب الأكثر تميزا الذين يتم قبولهم في أكثر المؤسسات انتقائية, وبعض مؤسسات التعليم العالي تعلم ذلك جيدا, لأنها تجري تقييما لمستويات الطلاب في الفرنسية ولديها إحصائيات دقيقة بذلك. إذن كيف نصمم آلية تضمن حصول أبنائنا مع نهاية المرحلة الثانوية على مستوى 2B وحصولهم على 1C عند تخرجهم من الجامعة في اللغتين الفرنسية والانكليزية دون أن تكون هذه اللغات عائقا أمام تحصيلهم العلمي في أي مرحلة من مراحل تعليمهم؟ هذا هو السؤال المتعلق بلغة التدريس واكتساب اللغات الأجنبية الذي يجب أن تسخر الوزارة والمجلس الأعلى للتهذيب والمشاورات التربوية مقدراتهم العقلية للإجابة عليه. ومما لا شك فيه أن الوزارة والمجلس الأعلى للتهذيب يمتلكون من العقول ما يفيض عن إجابة محكمة على هذا السؤال إذا توفرت الإرادة, والمقترح الذي أقدمه هنا لا يعدو أن يكون مادة للتفكير والإثراء.
إن الانتقال من مستوى معين من المستويات السبع التي ذكرنا إلى المستوى الذي يليه يتطلب عددا معلوما من ساعات التدريس وهي بالنسبة للفرنسية من المستوى الأدنى A0 إلى المستوى 2B مرورا بالمستويات الثلاث التي بينهما على التوالي 80, 120, 200 و250 ساعة تدريسية. وبالنسبة للانكليزية على التوالي 70, 150, 300 و200 ساعة تدريسية. وهو ما مجموعه في المتوسط حدود 700 ساعة تدريسية. وإننا من خلال برمجة ساعتين أسبوعيا لكل من اللغتين خلال المرحلة الابتدائية ابتداء من السنة الثانية وبرمجة ثلاث ساعات أسبوعيا خلال المرحلة الإعدادية والثانوية نقدم للتلميذ ما يزيد بعشرين في المائة تقريبا على ما يلزم لحصوله على مستوى 2B. ولكن ذلك وحده لا يكفي, فيجب أن نوفر الوسائل لعملية تدريس جيدة, وقد تطورت الوسائل التدريسية للغات في العقود الأخيرة وانخفضت كلفتها وأصبحت في متناول جميع الدول, فقراء العالم وأغنيائه.
ويجب إضافة لتوفير الوسائل التدريسية وضع آلية تحقق دورية مركزية من مستويات التلاميذ في اللغتين الفرنسية والانكليزية تنظمها الوزارة. آلية تتشكل من عمليات تقييم ثلاث, الأولى يجب أن تنظم مع نهاية السنة الأولى من الإعدادية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 2A, والثانية مع نهاية السنة الرابعة من الإعدادية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 1B, والثالثة مع نهاية السنة الأخيرة من الثانوية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 2B, مع إخضاع التلاميذ الذين تظهر نتائج التقييم تأخرهم عن المستوى المطلوب لمرحلتهم الدراسية لدورة صيفية مكثفة بهدف تعويض التأخر وتمكينهم من المتابعة في السنة اللاحقة مع زملائهم دون صعوبات. بهذه الآلية, بشكلها هذا أو وفق نسق معدل, نؤمن اكتسابا مضمونا للغتين دون أن تقف أي منهما عقبة أمام فهم واستيعاب العلم.
وهنا يجب التفريق بين المرحلة الابتدائية من جهة والمرحلتين الإعدادية والثانوية من جهة أخرى. فالمرحلة الابتدائية هي مرحلة التماس بين الأطفال و اللغات الأجنبية ويجب أن يكون هذا التماس موفقا, ويجب أن ندرك انه خلال هذه المرحلة من العمر تكون المنظومة السمعية النطقية للأطفال لازالت مرنة قابلة لسماع وإنتاج جميع مخارج الحروف إلا في حالات استثنائية نادرة نسبيا, ويجب أن نستغل هذه المرونة التي سيفقدونها تدريجيا في المستقبل لتمكينهم من المخارج الصحيحة للحروف, ولذلك في هذه المرحلة يجب انتقاء المدرسين على أساس سلامة النطق, فهو محوري في هذه المرحلة لأن اختلالاته تشكل عائقا للفهم يصعب التغلب عليه في مراحل لاحقة.
إن الحاجة إلى اللغات الأجنبية وتأثيرها على الاستفادة من الفرص المتاحة داخل الوطن وخارجه لا يقتصر على الاختصاصات العلمية, ولذلك في المرحلة الجامعية يجب أن ندخل التدريس باللغتين الفرنسية والانكليزية في جميع الاختصاصات دون استثناء, لكي يحافظ طلابنا على المستويات اللغوية التي اكتسبوها في المراحل السابقة ويتمكنوا من تطويرها وليُعِدّهم ذلك للدراسة والعمل بكل من اللغتين في الداخل والخارج إذا احتاجوا إليه, على أن ندرس عشرين في المائة من المواد بكل من اللغتين, وأن يترك لكل قسم تحديد المواد التي ستدرس بالفرنسية والمواد التي ستدرس بالانكليزية حسب طبيعة المواد والطواقم المتوفرة لديه وتقديراته. ويجب أن تدرس المصطلحات العلمية والفنية في كل المواد باللغات الثلاث. وإنه من الضروري أن نبقي تدريس الغالبية المطلقة من المواد بالعربية في كل الاختصاصات ليتمكن الطلاب من العمل بها مستقبلا دون صعوبات, ولأن معرفة المتعلمين للعلوم بلغة المجتمع هي الوسيلة الوحيدة للنفاذ المعرفي وخلق ثقافة علمية يستوي فيها الجامعيون وغيرهم, كما أن العلم رافد أساسي للغة بالمفاهيم إذا قطع عنها هذا الرافد عرقل ذلك تطورها الطبيعي ولا أحد يريد ذلك للعربية.
إن أي إصلاح لا يزيل العائق اللغوي لن يكون له تأثير يذكر على المستويات لأنه لا يهيئ ظروف النفاذ العلمي. فهو لا يعدو أن يكون محاولة استغلال لرصيد الثقة الذي يمنح طبيعيا لكل جديد, وسيتبين لاحقا أنه مجرد كسب للوقت وإعادة قولبة للفشل. وإن كان الذين أحكموا هندسة وإنشاء هذا العائق يتحملون مسؤوليته كاملة مستمرة ما بقي, فإنهم قد يتعللون بأنهم لم يكونوا يدركون حجم الكارثة التي سيسببها أو أنه نفذ على غير ما تصوروه, أما نحن اليوم فإننا لا نملك عذرا بعد أن بانت البينة, وإن السيد الرئيس يتحمل شخصيا المسؤولية كاملة عن إبقاء هذا العائق لا يخفف عنه مشاطرة المجلس الأعلى للتهذيب ووزيره له المسؤولية, لأنهم ليسوا منتخبين فهم يستمدون سلطتهم من سلطانه فلا تنقطع المسؤولية, فإما أن يزيل العائق أو أن يكون جاهزا وقادرا على الإجابة.
أعرف أن ورقتي هذه بما تحمل من حجج وتفصيل وما كتبته قبلها وما كتبه كثير غيري قد لا يقود إلى زوال العائق اللغوي وخلاص أبنائنا منه, لأن العائق يحميه جيش من المتخاذلين لا يرضاه منهم أحد ولا يريد منهم أحد أن تغبر له قدم في سبيل إزالته, غالبيتهم العظمى تنتمي إلى تيارات عروبية أو تحسب عالميا على العربية والإسلام لكنها عندنا متحور أصيب بطفرة مسخته, اقسموا بالله جهد أيمانهم لا يعرق لهم جبين أو قلم إلا في مسالك المصالح الفردية والحركية فيها مآذن, والمصلحة العامة فيها تحتاج إلى تنقيب يتكلفون عناء تشويه النصوص وتمويج المنطق لإظهارها. إن أنجع حماة الوضع القائم جيوش المتخاذلين. لقد آن الأوان ليخرج المتخاذلون عن صمتهم, فإن فكاك أبنائنا من مخنقة العائق اللغوي مرتبط بقدرتهم على تكسير قيود الصمت, على الخروج من قوقعة اللافعل, على القبول بأن في رقابهم للحق تضحية.
من فضلكم أكملوا ما نقص, وفصلوا ما أوجز, وبينوا ما أعيتني الحجة, لكي لا تدعوا للمجلس الأعلى للتهذيب هذا ووزيره ذريعة لإبقاء العائق الغوي إن كانت لديهم نية لذلك, فإنكم وإن تطاولت ستسألون.
لأن عمر الضحايا لا يسمح لهم بالمرافعة عن قضيتهم كان لزاما علي تبيينها ما استطعت من حجة. هذه براءة إلى الله من العائق اللغوي الذي تنصبونه بين أبنائنا والعلم. اللهم هذا تفصيل ما تَبيّنت, اجعل لي به من تضييعهم معذرة.
وفق الله وأعان
د. م. شماد ولد مليل نافع
----------------------
* كان السيد وزير التهذيب قد قال إن المشاورات التربوية التي ستفضي إلى قانون توجيهي وخارطة طريق ستبدأ في ديسمبر لتكتمل في ابريل 2021, وهاهي العهدة توشك على التنصيف والمشاورات لم تبدأ بعد. كيف بإمكاننا أن نفهم أو نتفهم أننا احتجنا إلى شهور خمس بعد تسمية أعضاء المجلس الأعلى للتهيب لتسمية رئيسه ونائبه. إن الأمور تسير بوتيرة مسئمة, لم يعد بالإمكان تبريرها بتثاقل الانطلاق لأن سنتين كفيلة بالتغلب على تثاقل الانطلاق, لا بد من الاعتراف بأنه توجد مشكلة حقيقية في قدرة الدفع وعلينا أن نجد لها حلا حاسما, وإلا فإن العهدة قد تنتهي دون أن يجد القانون التوجيهي أو قانون الإطار طريقه إلى التنفيذ والتجربة.