عانت مصر على مر التاريخ من موجات مجاعة متكررة وقاسية، ارتبطت كلها بالنيل وتاخر فيضانه ودأب المصريون منذ القدم على تقديم قرابين للنيل اذا انحسر او تاخر استدرارا لفيضانه ، حتى جاء الاسلام وفتحت مصر سنة 20ه /641م فاستعاض الفاروق عمر رضي الله عنه عن ذلك برسالة خطية ألقيت في النيل جاء فيها : أيها النيل ان كنت تجري بأمرك وقضائك فلا تجر وان كنت تجري بأمر الله وقضائه فاجر.." .
فقصة النيل إذن طويلة وحكايته حكاية، انها قصة مصر ذاتها فها هنا معادلة من معادلات الأرض ومفارقة من مفارقاتها العجيبة.. ان ترتبط نعمة النيل بما يشبه الفخ السوسيولوجي، فعلى مر التاريخ كانت هناك موازنة في مصر بين طاقة النيل وعدد السكان، اذا فاق عدد السكان طاقة النيل حدثت المجاعة فيتناقص السكان، فإذا فاض النيل واستمر الخصب حدث العكس، وحتى في سنوات الخصب اذا نقص منسوب الفيضان تأثر الفلاح الذي لا مخزون له ولا مؤونة.. وفي بعض المرات التي طورت فيها بعض الدول المتعاقبة على حكم مصر هندسة الري تسارعت وتيرة النمو الديموغرافي بسبب توفر الغذاء حتى اذا عجزت الهندسة عن ملاحقة الزيادة السكانية ظهرت المجاعة وعاد السكان للنقصان من جديد..
هكذا كانت الامور تحدث بالدوام في مصر.. ويمكننا ملاحظة ان المرات التي تحدث فيها القرآن الكريم عن مصر كانت مشكلة الغذاء المرتبطة بفيضان النيل دوما حاضرة.. ففي المجاعة التي حدثت في زمن يوسف عليه السلام نقرأ مثلا محاولة لتأمين الغذاء قال تعالي (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . وفي قصة موسى كذلك مجاعة اخرى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). وهناك نقاش طويل في قصة موسى حول الغذاء .. (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) واحيانا يثني القرآن على خير مصر حين يفيض النيل .. قال تعالى (كم تركوا من جنات وعيون . وزروع ومقام كريم . ونعمة كانوا فيها فاكهين ). و طبعا هناك قصص و أساطير شعبية لا احصر لها حول الموضوع.
والمهم في هذا كله ان المعضلة مازالت قائمة لم يتم حلها ، وحتى نظم الاستدامة الحديثة لم تستطع حيالها اي شيء ، وان كانت العولمة و تقنيات التخصيب وعلم البذور قد أجلت بعض المشاكل الا انها لم تقض عليها، ومصر مرشحة لتحولات هائلة مع ما يعرف بالأزمة المائية و بناء سد النهضة الأثيوبي ، وطبعا اثيوبيا تعاني هي الأخرى أزمة بسبب الانفجار السكاني ( 106 مليون) .. وهذا أمر لابد ان يؤخذ في الحسبان ،تماما كما هو الحال بين الهند والصين والأزمة المائية المماثلة المرتقبة بينهما.. وتعاني مصر ايضا من تردي التربة وانهاكها..
والخلاصة ان مصر تقف الآن على مفترق الطريق الذي خبرته عبر الحقب ، إلا انه في هذه المرة لا يرتبط بالمعادلة السكانية المعهودة والفخ المرتبط بالتاخر الطبيعي لفيضان النيل ، بل بحبس النيل في مرحلة من رحلته إلى مصر بسبب معادلة سكانية أخرى وصعقة "مالتوسية " في مكان آخر.. وهذ أسوء بكثير لأن ترتيبات الطبيعة لم يعد لها تأثير في جدول الحل.
اسماعيل محمد خيرات