تبدو الأزمة الليبية للكثير من المراقبين عصية على الفهم، نظرًا لصعوبة تحديد مآلات الأحداث وفق المؤشرات المتعارف عليها، فضلًا عن حالة السيولة المخاتلة التي توحي بعكس مسار الأحداث، إضافة إلى هشاشة التحالفات وتغيرها باستمرار، فأصدقاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد، إلا أن الأمر اللافت في الأزمة الليبية ليس فقط تداخل العامل الخارجي بالداخلي، بل في تعويل الداخل على الخارج وبشكل يكاد يكون كليًّا، إلى حدِّ أن معظم الفاعلين المحليين الليبيين لا يثقون في قدرات المفاوض الليبي، ويرون أن الحل لا يمكن إلا أن يكون خارجيًّا، عكس نهايات الحروب الأهلية الثلاثة والستين التي عرفها عالمنا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي دارت سبع وأربعون منها في العالم الثالث(1).
سطوة حضور العامل الخارجي في الأزمة الليبية، عملت على إخراج الأمر برمته من أيدي الليبيين، وأحال الفاعلين المحليين المتصارعين على الشرعية والنفوذ والسلطة إلى وكلاء حرب بالإنابة عن صراع إرادات دولية اختلطت فيه التطلعات الجيوسياسية لقوى إقليمية صاعدة تحاول أن تلعب دورًا، مع إرادة اللاعبين الكبار لإعادة رسم خريطة المنطقة بعد فيضان ما سمي بالربيع العربي. وبين هذا وذاك، انخرطت في وحل الأزمة الليبية دول ترى أن تداعيات الأزمة الليبية أصبحت تشكِّل تهديدًا جديًّا لأمنها واستقرارها. لذا، يعد المراقبون الأزمة الليبية نموذجًا غاية في التكثيف للعبة الأمم!
ومرَدُّ استعصاء وصعوبة فهم المشهد الليبي، حسب الدراسات الرصينة عن القضية الليبية، أمور عديدة، أبرزها عوامل أربعة، نوجزها على النحو التالي:
1- الميراث الكارثي لحقبة الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي: وهو الذي ترك ليبيا دون مؤسسات حقيقية كما هو متعارف في جميع دول العالم. ذلك أن أربعة عقود من السياسات العبثية والارتجالية، في إبحار عكس التيار، جعلت أجيالًا من الليبيين لا ترى في السياسة غير العنتريات والمعارك الوهمية، والخطب الحماسية، أورثت أجيالًا من الليبيين هذا الخلط المريع بين الثورة والدولة.
2- ضعف التجربة السياسية: حيث تم حل الأحزاب السياسية في أقل من شهرين من نشأة دولة الاستقلال في 19 فبراير/شباط 1952، وفي العام 1972 تم تجريم الحزبية(2) وسن قانون تنص مادته الثالثة على عقوبة الإعدام لكل من دعا الى إقامة تجمع أو تنظيم حزبي.
3- الدولة الريعية: قبل حقبة النفط، كان معظم الليبيين يعيشون في القرى والنجوع والواحات بعيدين عن أي ارتباط بالدولة المركزية في الحواضر الشمالية. لكن الوضع اختلف تمامًا مع حقبة النفط مطلع ستينات القرن المنصرم؛ حيث سيطرت الدولة على النشاط الاقتصادي وأصبح المواطن معتمدًا بشكل كلي على الراتب والهبات والعطايا الدورية للدولة الريعية.
4- ميراث البداوة: عمل الآباء المؤسسون على التأصيل المرحلي للدولة المدنية لنقل المجتمع الليبي من مرحلة البداوة إلى التحضر والتمدن، والمخرجات على ضعفها تشي بجهد لا يخفى لتمدين المجتمع الليبي في حقبة الملكية، وتم هذا في مقابل عملية الإبحار العكسي التي جذَّرها نظام القذافي حيث حرص طيلة عقود أربع على بَدْوَنَةِ الحواضر الشمالية لليبيا، وجعل البداوة بقيمها ومثلها تكتسح الشارع الليبي. من أبرز تمظهرات عقلية البداوة على المستوي السياسي أنها لا تقيم وزنًا لمؤسسات الدولة ولا تحفل بنظام التقاضي، واعتادت على أخذ الحق باليد وبالقوة.