منكم من قد يتذكر حديثا سابقا لي عن قرار لوزارة التنمية الريفية بزراعة 2700 كهتار من الخضروات خلال الصيف الماضي ك " هبة " وقتها للتصدي للنقص المتوقع في مادة الخضروات تحسبا لإغلاق الحدود بسبب تفشي فيروس " كوفيد 19 "، وما عبرت عنه حينها من عوامل الفشل المحتوم المتربصة بهكذا حملة، كغياب التخطيط والتهيئة الجيدة، والعوامل المناخية غير المساعدة على نجاح زراعة الخضروات في بيئتنا صيفا، وعدم أهلية تجمعاتنا الزراعية التي قامت أصلا على الإنخراط في كل حملات الدولة بغية الحصول على الدعم دون نية الإنتاج، ولعبة " التخادع " التاريخية بين الوزارة وهذه التجمعات والتعاونيات، التجمعات تريد الدعم وتدرك، بالتجربة، أن الوزارة لا تريد إنتاجا، والوزارة تريد الدعاية لأطرها بذكرهم بما ليس فيهم من أجل تثبيتهم، واستدرار التمويلات من الدولة والممولين، وتدرك أن التجمعات غير مؤهلة للإنتاج ولا تنويه.
والطريف أن كلا من الطرفين يعي أن الآخر يعرف أنه يخادعه، وهذا ليس هو الزراعة وبطبيعة الحال ليس هو الإنتاج أحرى الإكتفاء، فالزراعة والإنتاج والإكتفاء ليسوا فقط أراضي صالحة ومياه، فالسودان كان، ولا يزال، يُعرف بسلة غذاء العالم العربي بنهرين أزرق وأبيض، و 17 مليون هكتار من الأراضي الصالحة، ومقوماتنا الزراعية لا تصل 1% من مقوماته، لكنه لم يكن يوما سلة غذاء لشعبه أحرى أن يكون سلة غذاء لعالم عربي، وإفريقيا معظمها أنهار وبحيرات وسهول ومنحدرات خصبة وستة أشهر من السنة أمطار منهمرة بمعدل 2500 إلى 3000 ملم سنويا أو يزيد، لكن أينما ذكرت المجاعات ونقص وسوء التغذية جاء ذكر إفريقيا أولا! الزراعة كذلك ليست طلة تلفزيونية ولا توزيع بذور ومعدات، ولا ما سمعت البعض يدعو له اليوم من إعلان " سنة فلاحية ".. بل هي قبل ذلك كله خطط وأهداف، ومنهج علمي، واستثمار موجه واع، ومأسسة، وتكنولوجيا، ومردودية، ومتابعة، وتقييم، وتجمعات زراعية مهنية قارة، لا رُحلا و" منتجعين " خلف الدعم الحكومي أينما كان، بالأمس منمون واليوم " تيفايه " في الأسواق، وغدا منقبون عن الذهب، وبعد غد " مجتمع مدني " وسياسيون! ولا تجمعات زراعية قارة دون البنى التحتية المساعدة على الإستقرار، ولا مهنية إلا بالتنظيم والتعبئة والتأطير المستمر، ولا تعبئة وتأطير إلا بكادرهما البشري المتفرغ لهما.
تتذكرون أيضا المقترحات التي قدمتها حينئد من أجل حملة منتجة، تلك المقترحات التي كان على رأسها إلغاء فكرة حملة صيفية للخضروات من الأساس، والإستعداد الجيد فنيا وماديا لحملة شتوية للخضروات حيث الظروف المناخية مواتية في جميع مناطق البلاد لإنتاج جميع أنواع الخضروات، تجنبا لهدر موارد وجهود في ما لا طائل من ورائه، وفي نفس الوقت الإعداد والإستعداد لزراعة صيفية مستديمة للخضروات تتركز في المناطق الساحلية معتدلة المناخ صيفا، وخاصة منطقة كرمسين بمحاذاة قناة آفطوط للري حيث الأراضي الخفيفة والمتوسطة الصالحة، ثم منطقة نواذيبو إذا توفرت المياه كونها أيضا منطقة ساحلية معتدلة المناخ، مع اقتناء أجهزة حفظ وتخزين الخضروات التي بتوفرها يتسنى حفظ الفائض من الإنتاج والتحكم في تسويقه وأسعاره، والأهم من ذلك كله تأهيل وتعبئة وتأطير التجمعات الزراعية على نمط جديد من الزراعة لا يقوم على عقلية التخادع هذه، بل على مبدأ الدعم للمنتج المستقر الجاد المعتمد في عيشه ودخله على النشاط الزراعي، والشطب على المتحايل المتحين المتصيد للدعم من أجل الدعم..!
وتتذكرون كذلك أنني أشرت إلى تمنياتي بأن أكون مخطئا فيما ذهبت إليه من حتمية فشل الحملة الصيفية لزراعة الخضروات، ضاربا موعدا لحلول موسم "حصادها " لنجد أسواقنا تكتظ بإنتاج هذه الحملة، ونرى الشاحنات المحملة بالخضروات من خارج الحدود تعود أدراجها بفعل إنتاجنا الوفير، فساعتها سأدرك، وتدركون أنني كنت مخطئا، أما وقد حدث العكس وتسبب توتر أمنيي ـ سياسي في إغلاق المعبر الحدودي الذي كانت بلادنا تتزود عن طريقه بالخضروات في انقراضها من أسواقنا وتضاعف أسعارها 400%، وتزامن ذلك مع الفترة التي يُفترض أننا ننعم فيها بإنتاجنا من 2700 هكتار خضروات فقد اتضح كل شيء وصدقَنا هاشتاك #أين تماته! وصدقتنا أكثر من ذلك موائدنا اليبضاء " الماسخة "..!
ولكي تفهموا ما جرى لابد أن أحكى لكم قصتان حدثتا معي وأنا على الضفة نهاية تسعينات القرن الماضي أعمل في مجال الإرشاد الزراعي، كل من هاتين القصتين تضحكني وتبكيني في الوقت نفسه، إحداهما أنه في تلك الفترة، أواخر التسعينات، أدى الرئيس الغامبي السابق يحي جامي زيارة لبلادنا، ولأن مدة الزيارة كانت ثلاثة أيام وأجندتها فارغة، فقد تقرر أن يؤدي الضيف صحبة الوزير الأول آنذاك زيارة لمدينة روصو لكسر روتين الزيارة وللوقوف على " الثورة الزراعية " هناك، حيث القيادة يومها كانت مقتنعة بوجود تلك " الثورة " عبر تقارير التلفزيون الوطني ومداخلات أطر القطاع.. ولأنه لا ثورة زراعية يومها هناك ولا حتى " إرهاصاتها " وستقف الحجة، فقد تفتقت عبقرية أطر وزارة التنمية الريفية وبعض الفاعلين في القطاع الزراعي من رجال الأعمال بيوم قبل موعد الزيارة عن فكرة " شاطرة " تم بموجبها استجلاب عشرات الأطنان من أنواع الخضروات جوا من إسبانيا تم ترتيبها وعرضها أمام الضيف في مزرعة لأحد هؤلاء الفاعلين على أنها إنتاج وطني، وبنهاية الزيارة سيمد هؤلاء إيديهم للدولة كالعادة لضخ المزيد من الموارد وإقرار المزيد من التسهيلات لأن من هذا " إنتاجه " كما ونوعا لا ينبغي التخلي عنه طبعا..!
أما القصة الأخرى فهي في نفس الفترة أيضا حيث بينما أنا في " شمامة " خارج مدينة روصو إذا بسيارة تابعة للتلفزيون بها صحفي ومصور وسائق طلبوا مني مرافقتهم لإحدى المزارع بغية إعداد تقرير عن زراعة الأرز على الضفة، قلت لهم إنه لم تعد هناك زراعة فالقطاع انهار والقرض الزراعي أفلس والبنك الدولي أوقف تمويلاته، والمزارعون هجروا أراضيهم بسبب الإفلاس والخيبات والإحباط.. ألحوا علي قائلين إنهم جاؤوا من أجل إعداد ذلك التقرير ولا تمكنهم العودة بدونه، سألتهم ألا يمكنكم وصف الواقع كما رأيتموه وإعداد تقرير بذلك! قالوا أيضا لا نستطيع، وحتى لو أعددنا تقريرا بذلك الواقع فلن يتم بثه.. واصلوا إلحاحهم فذهبت بهم نحو مزرعة تابعة للهيئة العربية للإنماء والإستثمار الزراعي، وإن كانت هيئة أجنبية، فعلى الأقل بها مساحات مزروعة وآلات زراعية وإنتاج.. لكننا وفي طريقنا إليها مررنا برافد من النهر وقد سال فنبتت منه أعشاب، أخذ المصور كاميراه وبدأ التصوير، قلت له هذه أعشاب وليست أرزا.. قال المهم أن تكون شمامة خضراء وسنُعد تقريرنا، ودعتهم وتركتهم يعدون التقرير، المصور يصور والصحفي يعلق " هنئيا للمزارعين فيبدو أن جهودهم لم تذهب سدى وينتظرون حصادا وافرا في نهاية هذا الموسم ولا غرو فمن جد وجد ومن زرع حصد.. "! وما هي إلا أيام وإذا بنفس التقرير على التلفزيون وضيف من وزارة التنمية الريفية يزدهي به ويُعقب عليه ويزيده من عنده!
استحضرت اليوم هاتين القصتين وهما تمران من أمام عيني كشريط معاد كنا نعتقد أننا تجاوزناه وأصبح أرشيفا ميتا..! فأرى الوزير وطاقمه يجوبون منطقة الضفة يروجون لحملة صيفية للخضروات لا وجود لها على الأرض، ويلتقطون الصور مع أصحاب تعاونيات وحفنة من الخضروات لا تسمن ولا تغني من جوع، وتابعت التلفزيون وهو يتجول في أسواق الخضروات الخالية منها ويدفع البائعات للحديث عن الإنتاج الوطني لكنهن يقلن نحن نفضل إنتاجنا الوطني ولكنه غير موجود..! واطلعت على تدوينات لمن انتُدبوا لإنقاذ الموقف إعلاميا يقولون لنا أبشروا فهناك شحنات من الخضروات في طريقها إلى " سوق المغرب " قادمة من مزارعنا وهناك شحنات أخرى في الطريق، مع صورة لأكياس من البصل، علما أن البصل لم يكن يوما من الخضروات التي تشهد نقصا في أسواقنا بسبب المناخ أو إغلاق الحدود لأي سبب، لأن البصل والبطاطس مادتان يتم استيرادهما بكميات كبيرة من قبل الموردين عن طريق الميناء مثلهما مثل القمح والسكر والزيوت والحليب.. وهما محصولان قابلان للتخزين والمخازن دوما مكتظة بهما.
النقص إذن والشح بل الإنقراض من الأسواق كان في بقية أنواع الخضروات الطازجة كالطماطم والملفوف والجزر والفلفل الحلو ( poivron ) بنوعيه الأحمر والأخضر والقرع العسلي والخيار وهي الخضروات التي كنا نعتمد في حاجياتنا منها على معبر " الكّركّارات "، ثم الخس والبقدونس والبصل الأخضر التي هي خضروات تنجح زراعتها محليا في فصل الشتاء وتتوفر لكنها لا تنجح في فصلي الصيف والخريف وبالتالي شهدت هي الأخرى نقصا وندرة في السوق.
حان إذن موعد " الحصاد " لكن لم يزرع من ال 2700 هكتار المعلنة نصفها ولا ربعها ولا حتى عشرها، ومن يزرع ليس بالضرورة أن يحصد وللعديد من الأسباب، أحرى إذا كان لم يزرع أصلا، وذلك رغم الموارد التي عُبئت لهذه الحملة حيث اقتُطع لها من صندوق " كورونا " ومن ميزانيات تسيير أخرى عديدة، كما ساهم " مشروع مبادرة الري في الساحل " في تمويلها بمبلغ مليون دولار! قالوا إنهم سيتغلبون على عدم ملاءمة الظروف المناخية لزراعة الخضروات صيفا باستخدام بذور متكيفة، لكن الأمر اقتصر على 40 كيلوغرام من البذور طاف بها مواطن سوداني هنا لتسويقها فوقعت بين أيديهم واعتقدوا أنهم " جبرو افريسه "، بينما لا أحد يعرف مصدر هذه البذور ولا صلاحيتها، وفوق ذلك فقد كان معظم هذه الكمية بذور بصل، وقد بينا أعلاه أن لا مشكلة لدى سوقنا في التزود من البطاطس والبصل، ونعرف جيدا أنواع الخضروات التي تشهد نقصا متكررا في أسواقنا بسبب حرارة فصل الصف، أو بسبب إغلاق الحدود لو كنا تخلينا عن لعب الأطفال الذين يأبوْن تجاوز سن اللعب، أو " الإقلاع " عن أساليبه!
محمدو ولد البخاري عابدين