سابقة زراعية..!

في بداية هذا الصيف تحدثت عن خطة وزارة التنمية الريفية لحملة صيفية لزراعة الخضروات، وبينت المعوقات الذاتية والمناخية أمام نجاح تلك الحملة، غير أن الوزارة صممت وذهبت قدما في تلك الخطة وقالت إنها زرعت 2700 هكتار من الخضروات لتغطية حاجيات البلاد من هذه المادة خلال الأشهر المقبلة، ونتمنى أن نكون مخطئين في ما ذكرناه من معوقات، وأن نرى أسواقنا خلال الشهرين المقبلين تكتظ بإنتاج هذه الحملة، ونرى شاحنات جلب الخضروات من المغرب والسنغال تعود أدارجها لأن لا مكان في أسواقنا لبضاعتها من وفرة إنتاجنا، لكن إذا حان الحصاد ولم يحدث ذلك فتذكروا ما ذكرناه من مسببات فشل وما قدمناه من اقتراحات..

قبل ليال كان وزير التنمية الريفية على قناة الموريتانية يقدم حصيلة لقطاعه، وقال فيما قاله إن الإكتفاء الذاتي الكامل في مجال الأرز سيتحقق فعليا ابتداء من الموسم الزراعي 2021 ـ 2022، وهي ـ لعمري ـ سابقة في التاريخ والمجال الزراعي، أن يحقق بلد اكتفاء ذاتيا زراعيا خلال سنة من قطاع كانوا يقولون إنه منهار..! نعم سمعنا كثيرا من خصوم نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، أو لنقل خصوم محمد ولد عبد العزيز شخصيا، أن القطاع الزراعي انهار خلال هذه العشرية كما انهار التعليم، والصحة، والبنية التحتية، والأمن، والسياسة، والدبلوماسية، وغيره من كل " الصروح " التي وجدها أمامه شامخة ونسفها!

لكن تعالوا معنا ليتذكر منكم الناسي والمتناسي والجاهل بمسار قطاع الزارعة المروي في بلادنا الذي بدأت ممارسته الفعلية بداية تسعينات القرن الماضي، بممارسة " الزراعة السياسية " وليس السياسة الزراعية، فتوجه كل من هب ودب إلى " شمامه " لأخذ حصته من أموال القرض الزراعي التي كان من السهل جدا والشائع كثيرا سحبها على أنها تمويلات لزراعة الأرز، لكنها تتجه للإستثمار في قطاعات الصيد والعقارات والثروة الحيوانية.. وبإختصار، ودون الخوض في ما شهده عقد 1990 ـ 2000 من تلاعب في القطاع الزراعي حصلت النهاية الحتمية لهكذا سياسة زراعية أو " زراعة سياسية "، فانهار القطاع قبل أن يقوم أصلا، حيث المساحات المزروعة كانت متواضعة، ونوعية المنتوج ردئية مُعافة من طرف المستهلكين.. فبدأت هجرة المزارعين الحقيقيين، على قلتهم، القطاع تحت ضغط الإفلاس والخيبات، أما المزارعون المُصطادون لأموال القرض الزراعي فكانوا مهاجرين أصلا لأن لم يكن لهم ارتباط بالأرض، والقرض الزراعي الذي كانوا ينهبون أمواله أفلس!

فهل سمعتم في ما سمعتم، أو رأيتم في ما رأيتم بلدا أو حكومة أو نظاما حقق إكتفاء زراعيا في محصول من قطاع " منهار " خلال سنة واحدة في بلد ومجتمع زراعي بالفطرة، أحرى مجتمعا بدويا صحراويا كمجتمعنا لم تكن الزراعة وخاصة المروية والحديثة منها من ثقافته ونمط عيشه!

لا سيداتي سادتي، لم ينهار أي شيء في هذا البلد خلال العشرية الماضية، فقد كانت إرادة البناء أقوى من معاولكم الخشبية، والذي تحقق خلالها إذا لم يُعد ثورة فهو في أدنى حالاته قفزة أونُقلة وعلى جميع الصعد بالنظر إلى وضعية البلد قبلها، وإذا كان الموريتانيون، أو أغلبهم لديه موازينه الخاصة التي يزن عليها الأمور، ومنطلقاته التي ينطلق منها في تقييم المراحل والمقيدة غالبا باختزال كل شيء في شخص هو كل شيء، أو هو لا شيء تبعا لموقفك منه، فذلك مشكلهم وليس مشكل العشرية ومكتسباتها، فكل ما له قيمة ومعنى تنمويا في البلد اليوم هو من مكتسبات تلك العشرية، وهو ما تعتمد عليه وتستغله حكومة اليوم وتُعد عليه برامجها وسياساتها من مدارس، ومعاهد، وجامعات، ومراكز صحية ومستشفيات عامة ومتخصصة، وطرقا، وموانئ، ومطارات وطائرات، وفائض طاقوي وربط كهربائي، ومحطات ضخ مائي، وقنوات ري واستصلاحات زراعية.. حتى مظاهر الحياة وحركة الأسواق والموانئ والنشاط العمراني العمومي والخصوصي، وحركة السيارات وموديلاتها، بل وسحنات الناس وأنماط عيشهم.. كل ذلك يعكس نموا لا انهيارا، نعم لا يزال هناك فقر وتحديات لكن وكما لن تجدوا بلدا حقق إكتفاء ذاتيا خلال سنة واحدة دون مقومات ومكتسبات سبقت تلك السنة، فلن تجدوا أيضا بلدا قضى على الفقر وعلى كل التحديات خلال عشر سنوات لم يكن ما سبقها معينا على ذلك من أية ناحية. 

وعليه فيستطيع وزير التنمية الريفية اليوم أن يجلس ويقول إن الإكتفاء الذاتي من الأرز سيتحقق في ظرف سنة أو سنتين، منطلقا مما وجده أمامه من مقومات زراعية جعلت البلد على مرمى حجر من هذا الإكتفاء، ومن تلك المقومات :

1 ـ 58 ألف هكتار مزروعة خلال الموسم 2019 ـ 2020 وبإنتاج يغطي من 75 إلى 80% من حاجيات البلاد من الأرز، وهذه الأرقام وإن كانت قابلة للتحقق منها في سهل " شمامه " اليوم، فإنها أيضا جاءت على لسان المندوب الجهوي للتنمية الريفية بولاية اترارزة قبل أيام في مداخلة له على قناة " الموريتانية " واصفا ذلك بالإنجاز الكبير، رغم أن الحديث عن إنجاز كبير يتعلق بالعشرية الماضية يدخل اليوم في خانة المكروه سياسيا..!

2 ـ الإستصلاحات الجاري تنفيذها منذ سنوات، وما وفرته قناة آفطوط الساحلي من مساحات قابلة للري تُقدر ب 26 ألف هكتارا، وتلك المساحات البالغة 3500 هكتار في مقاطعة أركيز التي أطلقها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز سنة 2017، بالموازاة مع إطلاق أعمال حفر قناة " لعويجه " على طول 44 كلم في نفس المقاطعة موفرة مياه الري ل 10 آلاف هكتار جديدة، وقد أشرفت السلطات المحلية في المقاطعة قبل أيام على إنطلاقة مشروع أركيز الزراعي المروي القائم على هذه الإستصلاحات وهذه القناة، دون أن ننسى مشروع تعميق رافد " كوندي " الذي بدأت أعماله يونيو 2019 من أجل استغلال 5000 هكتار للزراعة الفيضية و10.000 هكتار للزراعة المروية. 

3 ـ عودة ثقة المزارعين في قطاع هجروه بداية هذه الألفية، والإقبال الكثيف من طرف الفاعلين والمستثمرين على القطاع، الشيء الذي يعكسه اليوم بحث الكثير من الفاعلين عن مساحات على الضفة لاستغلالها في زراعة الأرز شراء أو تأجيرا.

4 ـ تضاعف عدد معامل تقشير الأرز الكبيرة عشر مرات ( نقول معامل تقشير وليس مصانع تقشير لأن هذه المعامل لا تصنع الأرز وإنما تقشره وتُبيضه )، وقد كان عدد هذه المعامل سنة 2010 لا يتعدى ثلاثة معامل تأخذ طاقتها المحدودة من الأرز الخام، وتبقى بقية الإنتاج لدى منتجيها لا يعرفون كيف يُسوقونها، واليوم يُقارب عددها ال 30 معملا تستوعب غالبية الإنتاج من الأرز الخام، بل إن بعضها يشتري الأرز من منتجيه وهو لا يزال في الحقل، مما ساهم بشكل كبير في حل معضلة التسويق، كما شكل ذلك أيضا نوعا من القرض الزراعي الخصوصي، حيث أصبح بعض أصحاب هذه المعامل يُمول بعض المزارعين على أن يُعوضوه عن ذلك التمويل بإنتاجهم من الأرز.

5 ـ التحسن الكبير في نوعية الأرز الموريتاني والإقبال المتزايد عليه من طرف المستهلكين، وتوفره اليوم في كافة الأسواق على امتداد التراب الوطني، إذ لن يتم الإكتفاء الذاتي من منتوج رديء في ظل منافسة قوية للإنتاج الأجنبي.

ورغم كل ذلك، ورغم أن الإكتفاء الذاتي من الأرز اعتمادا على هذه المقومات بات في المتناول، يظل تحقيق هذا الإكتفاء خلال سنة أو إثنتين مستبعدا في ظل مشكلتين لا زالتا مطروحتين هما مشكلة آليات الحصاد التي لم تتمكن الدولة ولا الفاعلون الخصوصيون من إيجاد حل مستديم لها بعد، وكوننا اليوم في موسم حصاد الموسم الصيفي لزراعة الأرز، فإن الحديث الطاغي في مجموعات الواتساب بين المزارعين اليوم هو التهكم على كلام الوزير حول تحقيق الإكتفاء الذاتي خلال سنة، قائلين كيف سيتحقق الإكتفاء الذاتي من الأرز خلال الموسم القادم، ومعظم إنتاج الموسم الحالي لا زال في الحقول تحت رحمة موسم الأمطار دون وجود حاصدات لحصاده، فالعدد المتوفر منها غير كاف أو متعطل، والحاصدات التي كانت تُستجلب من السنغال لسد النقص في الحاصدات محليا لم تسمح لها السنغال بالعبور هذا الموسم! 

أما المشكل الثاني فهو غياب ركن أساسي من أركان الزراعة المستديمة ألا هو ركن البذور المنتخبة، واعتقاد الدولة أنها قادرة على زراعة منتجة مستديمة دون إيلاء عناية فائقة لجانب البذور، ولا نكون مُبالغين إذا قلنا إن تلك العناية يجب أن تكون بمستوى وحساسية ومحورية الأمن القومي.. فنظرا لمكانة البذور الجيدة في الأمن الغذائي، وبالتالي الأمن القومي، فإن الكثير من البلدان الزراعية تُشكل مجلسا أعلى للبذور يرأسه الرئيس أو الوزير الأول للسهر على جودة البذور، وحسب علمي فإن لدينا مجلسا كهذا يرأسه الوزير الأول وذلك منذ عهد الوزير الأول الأسبق اسغير ولد أمبارك، لكن هذا المجلس لم ينعقد قط!

فعلاوة على أهمية البذور المنتخبة في الإنتاج المستديم كما ونوعا، فإن الفوضى في استخدام البذور وغياب الرقابة الصارمة على جودتها ونقاوتها كفيل بتدمير القطاع الزراعي، وكلنا نتذكر الكارثة التي أوشكت على أن تدمر قطاع الواحات قبل سنوات في ولاية تكانت بسبب السوسة الحمراء لولا أن الدولة استنفرت جهودها لإحتوائها قبل الاجتياح، وهذه السوسة دخلت البلاد في فسائل نخيل دون رقابة، والفسائل ليست سوى بذورا وما ينطبق عليها ينطبق على كافة أنواع بذور المحاصيل حبوبا وفواكه وخضروات وأشجار زينة وأعلاف.. وإذا كنا اليوم خاضعين للحجر الصحي حفاظا على سلامة المواطنين من فيروس " كوفيد 19 "، فإن هناك أيضا الحجر الزراعي المُطبق في كافة البلدان بوضع إجراءات صارمة لمنع دخول أي مواد نباتية مجهولة المصدر، قد تكون حاملة لحشرات أو أمراض نباتية خطرة، أو حاملة لصفات وراثية رديئة قد تدمر الصفات الوراثية الجيدة للأصناف المحلية بواسطة الخلط الوراثي.. وبالتالي فإن كل ما حققناه اليوم من مكتسبات سمحت لنا بالحديث عن الإكتفاء الذاتي مُعرض للإنتكاسة خلال موسم واحد إذا ظل قطاع البذور مهملا، وظل الكل يستخدم بذورا من أية مصادر شاءها، وظلت الجهات الفنية المختصة غائبة عن الميدان!

 وليس صحيحا ما قاله الوزير في مداخلته عن تدخل الوزارة من أجل تحسين البذور، فما يجري الآن هو فوضى عارمة لا تخضع لأدنى المعايير المعروفة لأنتاج البذور، ولا لمراحل إكثارها بدء ببذور المُربي ( les semences de pré base  )، ثم بذور الأساس ( les semences de base )، ثم البذور المسجلة ( les semences enregistrés )، فالبذور المعتمدة ( les semences certifiées ) التي هي في النهاية ما يصل المزارع كبذور مضمونة، وعلى جودتها تعتمد كل العمليات الزراعية، وعليها أيضا تعتمد جودة وكمية واستدامة الإنتاج، وهذا التسلسل الإجباري في إنتاج البذور المنتخبة لا يتم منه اليوم أي شيء في إنتاج البذور المستخدمة في حقول الأرز، وليست هناك جهة فنية مشرفة على إنتاج واعتماد هذه البذور، وكلما ما هو موجود هو فني متقاعد يسكن لفترة مع هذا المزارع في بيته يُكرم ضيافته ويعتمد له بذوره، وينتقل لمزارع آخر يقيم معه يكرم ضيافته ويصدق له بذوره وهكذا.. حتى أن بطاقات إعتماد البذور ( tiquet ) الحاملة لمواصفتها من درجة البذور، ونقاوتها، ونسبة إنباتها، وتمثيلها للصنف.. هذه البطاقات تُوزع اليوم يمينا وشمالا كيفما اتفق، وكل مزارع قادر على الحصول عليها وإلصاقها على أكياس بذور غالبا كانت في مخازن موجهة للإستهلاك البشري وليست بذورا معتمدة، ولن يتحقق إكتفاء ذاتي بهكذا بذور مهما توافر من شروط أخرى للإكتفاء، وستذكرون ما أقوله لكم، وأتمنى ألا يكون بعد فوات الأوان. 

 

محمدو ولد البخاري عابدين

جمعة, 17/07/2020 - 00:18