
ربما يتذكر المتتبع لانتفاضة الصين التجارية وردودها على سياسات اترامب كلمة أ شار اليها مرة المفكر الروسي الكسندر دوغين حين وصف الصين بأنها أصبحت دولة غربية الروح، قضيتها الرئيسية هي قضية اقتصاد، وهذا أمر يتأكد الآن من خلال طبول الحرب التجارية التي يتعالى أزيزها، هذه حرب لا تختلف في شيء عن حروب اوربا التاريخية على الاسواق وطرق الملاحة، من الصراع بين البندقية وجنوة الى الحرب بين هولندا وابريطانيا في القرن السابع عشر، وغيرها.. حروب على الفلوس، سافرة العري، متحررة من كل الاقنعة والواجهات الأخلاقية التي تتدثر بها الحروب عادة لستر الغرائز المادية، هذا هو ما يجري الآن، فلا يواري اترامب كما لا تواري الصين أن هذه أيضا حرب حول الفلوس، لا تصنع، ولا ادعاء بحماية مبدأ أو رفع ظلم أو نشر عقيدة بل ولا حتى تسييد عرق أو سلالة ، بل إنها حرب بين تاجرين ، أو على الاصح بين بقالتين كبيرتين تتبنى فيها الشعوب دون أن تشعر منطق الزبون الذي يفضل التاجر الطيب الودود ضد التاجر المتغطرس الفاجر.
إن كثيرا من المنقبين في ظاهرة صعود الصين ينبهون الى أن الصين إنما صعدت لتبنيها للروح الغربية وقواعد الصراع التجاري الاوربي التاريخي، وقد كانت يوما تنتقد بسبب انغلاقها وسياساتها الحمائية وهاهو اليوم الذي أصبحت فيه هي من ينتقد الغرب بنفس ما كان ينتقدها به قبل انفتاحها وصعودها التاريخي.
إن هذه الملاحظة السريعة والتي لا يمكن تجاهلها تستدعي منا النظر والتدقيق فيما هو مفترض أن يكون سليما أو بمعنى أدق النظر في صيغة أخرى للمواجهة مع الولايات المتحدة وكل المتغطرسين، صيغة لا تحولنا الى مجرد أسواق أو زبناء يؤيد بعضهم هذا التاجر ويؤيد بعضهم ذلك التاجر الاخر ، فهذا هو التردي والسقوط الذي ينسي الامم والشعوب حقوق الدفاع عن ذواتها والتقدم لتحقيق طموحاتها، وهو الحطام ذاته المنذر به في كل الازمنة وأول من أنذر به هم حكماء الزن في الصين ذاتها ..
ان الصيغة الاخرى للمواجهة مع الغرب التي يقود اليها التأمل، بل وحتى تقود اليها المقارنات هي جبهة روسيا، ومن المؤكد أن الصين مرتفعة الأسهم في عالم استهلاكي، تبدو فيه كتاجر بارع يوازن بين مصلحته ومصلحة زبنائه، بينما تبدو روسيا أقرب الى صاحب المواقف الذي لا يملك دائما كل شيء، لكنه على استعداد للمواجهة إن رأي في الشعوب نية للانعتاق.
ان الفرق الجوهري بين الصين وروسيا لا يتحدد من خلال حدة الصراع مع الولايات المتحدة، ولا من خلال التفاهم مع اترامب أو الشقاق معه ، بل من خلال دوافع ذلك الصراع وطبيعته و من خلال الدور أو الخدمة الرمزية التي تعرضها الصين وروسيا كل على حدة، فالصين بلا شك تتقن فن التعاطي مع الظروف الاقتصادية، تتفهم الميزانيات وتعرض على كل أحد ما يناسب دخله دون أن تتدخل في أسباب فقره أو حرمانه، أما روسيا فهي كالفارس الخشن، لا يملك رفاهية التفاصيل الدقيقة ، لكنه يدرك وبعمق حقيقة الظلم وبنيته وبالتالي فهو مستعد للمساعدة في رفعه إن أبدى أصحابه وأظهروا رغبة فعلية في ذلك ..
وهكذا بين براغماتية الصين ومبدئية روسيا يقف العالم النامي ضائعا و مترددا بين خيارين ، فمن ناحية تبدو الصين كشريك قد يخفف صعوبة وكلفة الواقع، بينما تتقدم روسيا كحليف مستعد لدعم ومواكبة تغيير هذا الواقع بشروط أن لا تكون وحدها في المواجهة .