بعد 34 عاما.. حكاية الديمقراطية الموريتانية

في منتصف أبريل من كل عام، تستدعي الذاكرة الوطنية لحظة مفصلية في التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا: إعلان انطلاقة المسار الديمقراطي سنة 1991، وما حمله من آمال عريضة، وتحديات قاسية، وتحولات دراماتيكية ظلت تتفاعل على مدى أكثر من ثلاثة عقود. لم يكن ذلك التحول وليد قناعة داخلية راسخة بضرورة القطيعة مع الحكم الأحادي فحسب، بل جاء ثمرة لتفاعل ضاغط بين الأزمات البنيوية للنظام القائم، والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية المتنامية، والتحولات الإقليمية والدولية التي فرضت على العديد من الأنظمة التكيف مع مناخ ما بعد الحرب الباردة.

ومع أن الإعلان عن التعددية والدستور الجديد قد مثل انطلاقة رمزية لمسار ديمقراطي طال انتظاره، فإن الحقيقة التي تتكشف عند قراءة مسار ما بعد أبريل 1991 هي أن الديمقراطية لم تمنح بل انتزعت، ولم تنجز دفعة واحدة، بل كانت أشبه بمخاض طويل، تخللته لحظات تصعيد وانفراج، نكسات سياسية، ونجاحات انتخابية، وانقلابات عسكرية، وتفاهمات داخلية، وصراعات مريرة على السلطة والشرعية.

في هذا المقال، نسعى إلى التوقف عند بعض اللحظات الفارقة في هذا المسار، من خلال العودة إلى لحظة التأسيس، وقراءة السياق الوطني والإقليمي والدولي الذي دفع النظام إلى تبني خيار الانفتاح، واستعراض ما شهده شهر أبريل – على وجه الخصوص – من تحولات محورية في المسيرة الديمقراطية الموريتانية. وسنحاول، من خلال هذه العودة التأريخية والتحليلية، أن نعيد تأمل التجربة الديمقراطية بكل ما فيها من تناقضات، وأن نفتح نافذة للنقاش حول سؤال طالما طرح: هل نجحنا فعلا في بناء ديمقراطية؟ أم أننا ما زلنا نعيش داخل دائرة مغلقة من التناوب على أشكال السلطة، دون جوهرها؟

 

 

مخاض الديمقراطية الموريتانية

 

 

لم يترك المسار الديمقراطي منذ انطلاقته سنة 1991 أي شهر من شهور السنة - وربما أي يوم- يمر من دون أن يخصه بحدث ذي أهمية. وإذا كان شهر أغشت تميز بأنه شهر الانقلابات الناجحة والتجاوز الفعلي للمؤسسات الديمقراطية، فإن شهر إبريل نجح في أن يضفي طابعه الخاص على الأحداث ذات الأهمية الاستثنائية في عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها موريتانيا.

لقد شهد يوم 18 ابريل 1992 تنصيب أول رئيس موريتاني يفوز في انتخابات تعددية، وفي يوم 19 ابريل 2007 تابع الموريتانيون – وسط اهتمام إقليمي ودولي- مراسيم أول عملية تداول سلمي على السلطة تعرفها بلادنا حيث تم تسليم السلطة للرئيس المنتخب ديمقراطيا ولد الشيخ عبد الله، غير أن يوم 15 ابريل 1991 يبقى الأكثر رمزية باعتباره يوم ميلاد المسار الديمقراطي الموريتاني.

قد يختلف المتتبعون لهذا المسار عند تقييم مختلف مراحله إلا أن أغلبيتهم يجدون فيه تجربة غنية وضعت البلاد على الطريق الصحيح. لقد تعرض للعديد من الهزات القوية، تحرك تحت ضغط إرادات قوية تسعى لخنقه ولتوجيهه لمصلحتها، غير أنه ظل مثل طائر الفينيق قادرا على النهوض من رماده والتحليق مجددا ليذكر من ينتخبهم الشعب، أو من يفرضون أنفسهم عليه، بأن عهد الانفراد بالسلطة والتحكم في مصير الشعب قد ولى لغير رجعة.

كانت ظروف الولادة صعبة وأجواؤها ملبدة بغيوم المصاعب، غير أن الرئيس معاوية ولد الطايع استطاع أن يحسم أمره، ليعلن للشعب الموريتاني –عبر ما سيعرف لا حقا بخطاب عيد الفطر المبارك- وبلهجة واثقة بأن استفتاء عاما سينظم خلال نفس السنة للمصادقة على دستور وأن انتخابات حرة -من بين أمور أخرى- ستنظم مستقبلا لاختيار مجلس نواب ومجلس شيوخ.

لم يكن الكثيرون حينها يدركون أنه خلف اللهجة الواثقة لولد الطايع يثوي شعور عارم بالخوف من الغرق وسط محيط مشحون بالتوتر وانسداد الآفاق، حينها كان النظام يحاول جاهدا أن يجعل من تعميم 11 فبراير 1991 برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكان يستغل حملة إعادة تنصيب هياكل الجماهير لاستدرار التأييد الشعبي، غير أن تحديات المرحلة كانت أكبر بكثير من أن تواجه بأسلحة هزيلة سبق وأن استنفدت كامل مفعولها.

 

 

قبل 5 أيام من تاريخ الخطاب، أي في يوم 10 ابريل، كانت النواة الصلبة للجبهة الديمقراطية المتحدة لقوى التغيير FDUC قد حسمت أمرها وقررت الخروج إلى العلن "للوقوف في وجه الانحرافات الخطيرة للنظام، بل لوضع حد لدكتاتورية كانت تثبت يوما بعد يوم خطورتها على وحدة واستقرار البلاد".

وفي يوم 5 ابريل كان اتحاد العمال الموريتانيين قد افتتح موسم الحركة الاحتجاجية والمطلبية حين فجر قنبلته في شكل ثلاثة رسائل للمطالبة بفتح الحوار بين الشركاء الاجتماعيين وبتبني نظام ديمقراطي وبإنشاء لجنة مستقلة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، بل حين ذهب أمينه العام، محمد محمود ولد محمد الراظي، أبعد من ذلك مطالبا بمؤتمر وطني لمناقشة أوضاع البلاد الحرجة والبحث لها عن حلول.

وفي تلك الأثناء كان كل من ضابط الصف الشيخ أفال الموجود في باريس - الذي كان شاهدا على الانتهاكات التي تعرض لها العسكريون والمدنيون الزنوج في قاعدةأجريدة العسكرية - واتراورى لادجي من نواكشوط، قد تمكن عبر إذاعة فرنسا الدولية من فضح الانتهاكات التي كانت تجري من العزلات إلى انبيكه إلى إنال ونواذيبو، وذلك في وقت بدأ فيه النظام بإطلاق سراح بعض العسكريين الزنوج.

قبل ذلك كان الحليف الرئيسي للنظام قد خرج من الكويت يوم 27 فبراير 1991 تحت ضربات "التحالف الدولي" الذي تفرغ الآن لتصفية الحسابات مع حلفاء صدام حسين. كما كانت رياح التغيير الديمقراطي قد بدأت تهب على مناطق عديدة من العالم وخصوصا على شبه المنطقة. ثم إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية كانت على أشدها بفعل الحصار الدولي المفروض على النظام واستمرار الجفاف للسنة الثانية.

كان ولد الطايع إذا في وضع لا يحسد عليه، فكان عليه أن يختار بين الوفاء لأسلوبه القديم فيلجأ إلى القمع ويشغل وقته بقراءة رسائل وملتمسات التأييد (مثل رسالة الأربعة آلاف التي وقعتها بعض القوى السياسية للتشهير بالديمقراطية، ورسالة الأربع مائة التي وقعها ما يعرف بزنوج النظام)، أو أن يحاول استعادة المبادرة لقطع الطريق أمام حركة الاحتجاج المتصاعدة حتى لا يجد نفسه أمام نفس مصير صديقه المالي موسى تراوري.

كانت الوكالة الموريتانية للأنباء ومن خلفها دهاقنة هياكل تهذيب الجماهير يدفعونه في الاتجاه الأول، بينما كان هو في طريقه إلى أن يثبت بأنه "بطل التقلبات السريعة والمنعرجات الخطرة". لم يعلن الانفتاح الديمقراطي فحسب، بل أطلق أيضا سراح جميع المعتقلين واستبق احتفالات فاتح مايو بالإعلان يوم 18 ابريل 1991 عن فتح المفاوضات بين الشركاء الاجتماعيين في يوم 27 ابريل.

وهكذا ستبدأ الأوضاع في الانفراج.. سيتفاوض ولد الطايع علنا مع النقابيين خلال شهر مايو، وسرا مع العسكريين المفرج عنهم وذوي المفقودين، كما سيمهل السياسيين بعض الوقت لتنسيق مواقفهم ولتعيين قياداتهم. لكن لن يبدأ شهر يونيو إلا وقد أصبح مستعدا للهجوم على خصومه.

سيحمل النقابيين المسؤولية عن أحداث الخبز في 2 يونيو 1991 في نواذيبو، وسيعتقل قادة الجبهة الديمقراطية يوم 3 يونيو - وهم يستعدون لإعلان ميلاد FDUC - ليجري استفتاءا على دستور جديد يوم  20 يونيو في غيابهم، كما سيشن حملة لا هوادة فيها على النقابيين لن تنتهي إلا بالانقلاب على أمينهم العام ولد محمد الراظي يوم 26 يونيو وتعيين مساعده محمد دينا مكانه.

وهكذا لن تأتي الانتخابات الرئاسية في يناير 1992 إلا وكان ولد الطايع قد تمكن من استعادة المبادرة على الصعيدين الداخلي والخارجي وأصبح قادرا على تطويع المسار لصالحه، رغم القدرة التعبوية الهائلة لمعارضته،المتمثلة أساسا في حزب اتحاد القوى الديمقراطية، ونبرة التحدي القوية التي صاحبت انطلاقتها.

 

س. احمد الهادي 

ثلاثاء, 15/04/2025 - 09:25