
في لحظة تاريخية تجسّدت فيها طموحات أمة بأسرها، نجحت موريتانيا في تحقيــق ما يشبه المعجزة في أبيدجان، عاصمة العزيـزة على الموريتانيين الكُوت ديفْوارْ، وذلك بعد فوز مرشحنا الدكتور سيدي ولد التاه برئاسة مجموعة البنك الإفريقي للتنمية، المؤسسة المالية الأهم في القارة منذ تأسيسها عام 1964، هذه المناسبة التي قال الناشط سي ممدو أنها لا تجمعنا و إنما تظهر هشاشة موريتانيا الداخلية؛ وفي الحقيقة، كان مقاله: la Victoire de la mauritanie? Vraiment? غير أمين في نقل واقع مشرف كما هــو، ولذلك، أردت من جهتي كشف حقائق موريتانيا الجامعة التي وقفت لترسم هذا المشهد، النادر حصوله في محافل دولية، تتنافس فيها الحكومات لتجسيد مصالحها السياسية والاقتصادية!
كدولة عضو في البنك الإفريقي للتنمية ومستفيدة من صندوقه، لم يكن الطريـق إلى رئاسةمجموعته مفروشًا بالورود، فموريتانيا؛ إذا ما قيست من حيث عدد السكان (حوالي 4.5 مليون نسمة) بغيرها من الدول الإفريقية الكبـرى، أو من ناحيـة حجم الاقتصاد الوطني (حوالي 11 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023)، أو من حيث مساهمتها المالية في رأس مال البنك، فإنه لربما لن تتمكن من تصدر قائمة المرشحين الأوفر حظًا، لكن موريتانيا– ورغم هـذه التحديات الجدية – لم تغفل عن قوة سلاحها الحقيقي: رأس مالها البشري.
فبقيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؛ آمنت بلادنا بأنه بالإمكان الاستثمار في الذكاء الاستراتيجي لنُخبها الجريئة والمخلصـة، الى جانب قدرة مؤسساتها الديبلوماسية على التواصل مع العالم، وتمسك شعبها بهويته الإفريقية، وكانت تستفيـد في هذا الاطـار من رئاسة الاتحاد الافريقي خلال العام الماضي، ولقد ساهمت كل تلك العوامل مجتمعة في تغيير المعادلات وكسر التحديات الجديـة، التي اعترضت البدايات. لهذا أعتقد أن الإيمان القوي لرئيس الجمهوريـة بقدرة موريتانيا على تحريك التنمية الإقليمية كان المؤشر الأبرز على انه بالإمكان اخراج البلاد من الهامش الافريقي إلى قلب الفعل القاري وصناعة القرار التنموي، عبر منح أبناء موريتانيا الثقة التي تمكنهم من اقتحام كبرى المؤسسات القارية، والدولية.
في مساء أمس الخميس، بفندق سوفيتيل أبيدجان، وبينما كانت الاجتماعات السنوية للبنك الافريقي للتنمية منعقدة تحت شعار: "تحقيق أقصى استفادة لإفريقيا من رأس مالها لتعزيز تنميتها"، بدا هـذا الحُلم الموريتاني في التجسد حقيقة وبات الطموح ملموسا ووزننا الديبلوماسي محسوسًا، حين رأينا الدول الكبرى – من نيجيـريا إلى الولايات المتحدة، ومن كوت ديفوار إلى فرنسا، ومن السعوديـة إلى جنوب افريقيا – تحتضن مرشحنا، وتحيي قدراته كأي اقتصادي افريقي بارز وناجح ومقنع، كان ذلك واضحًا حين أطـل الدكتور سيدي ولد التاه من المنصة ليخاطب 81 بلدًا بثلاث لغات – العربية والفرنسية والإنجليزية – دون تردد أو ارتباك بل بلغة المختص والمدرك لاحتياجات افريقيا والقادر على طمأنة المساهمين.
في كافة المراحل كان مرشح موريتانيا رجل اللحظة، فقد تحدث أولًا عن الفجوة بين إفريقيا والتكتلات الاقتصادية الأخرى، واستعرض استراتيجيات حملته لتجسير الهوة عبر الاستثمار في البنية التحتية، التحول الرقمي، وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وهي القطاعات التي يخصص لها البنك سنويا أكثر من 10 مليارات دولار، واخيرا وعد المساهمين بإجراء الاصلاحات المؤسسية التي من شأنها تعزيز الشفافية وتحفيز نمو المجموعة وتطور أدائها.
إن فوز موريتانيا برئاسة مجموعة البنك الإفريقي للتنمية يعدُ أكثـر من انتصار دبلوماسي، بل هـو تتويـج لإرادة سياسية خطط لها و راعاها من خلف الكواليس رئيس الجمهورية وأشرف على تنسيقها فريق حكومـي كيس في تحركاته واتصالاته بقادة القارة وزعماء العالم، كما أن فوز الجمهورية الإسلامية الموريتانية أيضا يعد بمثابـة رسالة للقارة مفادها بأن الدول الصغيرة اقتصاديا يمكن أن تصنع فرقًا، إذا ما امتلكت الرؤية والإرادة السياسية.
بالنسبة لي جاء فوز سيدي ولد التاه تتويجًا لمسار طويل من العمل الدبلوماسي والتنموي، فالرجل سبق له وان خدم القارة عبر المصرف العربي للتنمية الاقتصاديـة في افريقيا (BADEA) تارك داخل اقاليمها الخمسة أثرا ودعما ماليا وفنيا وتنمويا محمودا وملموسًا، كما لم ترى فيه هذه التكتلات الإقليمية تهديدًا جيوسياسيًا لأي منها، بل هـو خادمها الأمين، وعلى قدم المساواة وزاد من رجّحان كفته شخصيته التوافقية وقدرة بلاده على خياطة تحالفاتها الديبلوماسية والسياسية بكل هدوء وبشكل مدروس، بينما كانت خسارة منافسيه نابعة من الجوانب التاليـة:
• الخاسر الأبرز، كان صامويل مونزيل مايمبو من دولة زامبيا (كبير خبراء التمويل في البنك الدولي)، وكان مدعومًا من الكتلة الناطقة بالإنجليزية (Anglophone) في افريقيا، لكن كان من الواضح أنه يفتقر إلى دعم إقليمي موحد من داخل المجموعة الإنمائية لدول الجنوب الإفريقي (SADC).
• أما التشادي، عباس محمد، وهـو وزير المالية والتخطيط الاقتصادي في بلده، فقد وجد نفسـه مدعوما من قبل عدد محدود جدا من دول وسط إفريقيا، وبالتالي لم تتمكن حكومة بلاده من رسم خطة عمل للتواصل الدولي والإقليمي، بشأن ملف ترشحه.
• أما جارنا السنغالي آمادو هوت، وهــو وزير الاقتصاد والتخطيط والتعاون سابقا، وهـو الى جانب ذلك ذا خلفية أكاديمية ومهنية عالمية، ولكنه تعرض لانتقادات داخلية كثيرة بسبب سياساته الاقتصادية، كما لم ينجح في الحصول على دعم دول غرب إفريقيا، التي تفككت وحدتها في اعقاب ظهور مرشحنا الدكتور سيدي ولد التاه الذي عادت دول الإقليم لتراهن عليه كبديل توافقي.
• بالنسبة للسيـدة باجابوليلي سوازي تشابالالا (جنوب إفريقيا)، والتي كانت تشغل وظيفة نائبة رئيس البنك الإفريقي للتنمية، فقد أطاح بترشيحها اعتبار بعض دول الـSADC انها مجرد "امتدادًا للوضع القائم" داخل المجموعة الافريقية دون وعود إصلاحية واضحة، كما عانت من معارضـة الولايات المتحدة ودول أخرى قوية.
كل هذه العوامل سرعت، بظهور مزيد من المعجزات الموريتانية وخاصة من داخل الجبهة الوطنيـة، فقد رأينا الموريتانيين يلتفون حول مرشح بلدهم دفعة واحدة، موالاة ومعارضة، مؤمنين بأنه لا يمثل تيارًا بعينه، بل يحمل راية الوحدة والثقة في المستقبل باسم جميع الموريتانيين، دون استثناء.
عبيد إميجــــن
اعلامي وحقوقي
صباح الجمعة 30ـ05ـ2025