
جالسًا خلف وهج شاشة حاسوبه الباهتة، في غرفة هجرتها أنوار النهار منذ أسابيع، كان يطارد الإلهام كما يُطارَد فراشٌ نادر: بشغف، بارتباك… وبوحدةٍ ألفها. كان المكتب غارقًا في أوراق مكرمشة، وأكواب شاي منسية، ومنافض سجائر ممتلئة، وكتبٍ نصف مفتوحة. لا شيء في مكانه. ومع ذلك، كان يشعر بأنه في موطنه. هذا الفوضى، كانت انعكاسه.
لم يختر الكتابة. لم تكن قرارًا واعيًا ولا مهنةً اختارها. لا. قلبه هو من اختارها عنه — قلب عنيد، تسكنه أصوات لا تهدأ حتى تُروى الحكاية.
كان في الخمسين من عمره، رجلٌ شابت صدغاه، نحتت الليالي البيضاء ملامحه، وهو يملأ الشاشة بقصصٍ لم يعد يعيشها إلا في ذهنه. تلك الليلة، أو بالأحرى تلك الليلة المتأخرة، كان صدى لوحة المفاتيح من نوع AZERTY يدوي كطبول قديمة من بلاده البعيدة، ينبض بإيقاع غير منتظم، شبه بدائي. كل ضغطة على المفتاح كانت كأنها نغمة نشاز، لكنها مشحونة بالوعود. كان يكتب بلهفة مضطربة، يخشى أن تتبخر أفكاره قبل أن يقبض عليها. وكأن الحكاية تُقاوم الولادة.
وفجأة، دون سابق إنذار، ظهرت نافذة صغيرة على الشاشة. رسالة إلكترونية.
لا شيء استثنائي — قارئ نفد صبره، يسأل إن كان الجزء التالي من السلسلة قد نُشر. رسالة بسيطة. لكن بالنسبة إليه، كانت كافية لقطع الخيط الذهبي لأفكاره. نقرة واحدة فقط، وتبخّر نَفَس الإبداع كما تتطاير ورقة ذابلة في مهبّ الريح.
تمتم ساخطًا:
— تبا…
ليلة أخرى من الصراع مع الصفحة البيضاء. ساعات أخرى من الانتظار حتى تعود الكلمات — خجولة، متعثرة، مضطربة — في الربع الأخير من الليل، ذاك الوقت المقدّس، حين تتحول الإرهاق إلى صفاء، وتسفر الأرق عن لحظات وحيٍ نادرة. لحظات قد تنبثق منها روائع.
وكعادته، نهض من مكانه. كانت آلة القهوة تهمس في الزاوية، رفيقة سهره الوفيّة. شربها دفعة واحدة، ثم أشعل سيجارة — الأولى من سلسلة طويلة. تصاعد الدخان ببطء، يلتف حول ضوء المصباح الأصفر، كذكرى قديمة يرفض أن ينساها.
تقدّم نحو المكتبة الكبيرة التي تحتل الجدار الخلفي بالكامل. هناك، كانت تنام الأصوات العظيمة — أساتذته الخفيّون: دوستويفسكي، كامي، زولا، بورخيس… مرّر أصابعه على أغلفة الكتب كما لو كان يلامس حجارة معبدٍ قديم. ولَكأنّه يسأل كلًّا منهم همسًا: إلى أين تفر الكلمات عندما تهرب؟
في تلك الليلة، لم يكن مجرّد رجل يكتب. كان ساهرًا. ناجيًا. حرفيًا في الظلال، يلاحق حلمًا لا يعرف له شكلاً ولا نهاية. بالكاد كان قد بدأ وضع حجر الأساس لروايته الثانية — عمل وُلِد من الصمت، ونما بين الشكوك، ويحمل سرًّا لم يبح به لأحد بعد.
وفي تلك الغرفة المبعثرة، بين الكتب والأشباح، عاد إلى مكانه أمام الشاشة. يداه معلّقتان فوق لوحة المفاتيح، مستعدًّا لاستئناف المطاردة. ليبدأ قصةً لا تنطلق إلا حين تنتهي المنطق.
لكن، أيّ منطقٍ هذا؟ حين تكون الخيال في الرواية غير قابلٍ للفهم، والأفكار مراوغة كظلال الغروب؟ لا شيء سوى الحبكة يربط قلم الكاتب بعين القارئ. خيطٌ غير مرئي، هشّ، لكنه جوهري. خيطٌ يتيح لهذا القارئ أن يعيش، ولو للحظة، في جسد شخصية قد تكون مرآته.
سيد احمد شين