
في أواخر القرن التاسع عشر جرت في الحجاز حادثة لها دلالة مهمة في سياق بعض النقاشات الجارية اليوم ..فقد تعالت مطالب الحجاج الشناقطة بتخصيص نصيب محدد لهم في الوقف المغربي بالحجاز، وكتبوا للسلطة العثمانية في ذلك فردت السلطة العثمانية عبر الوالي العثماني بالحجاز بأنه لا حق للشناقطة في الوقف المغربي لانهم ينتمون في التقسيم المعتمد عندها الى بلاد التكرور الذي هي اقليم اسلامي قائم بذاته ومستقل عن بلاد المغرب..وسقطت الخلافة بعد ذلك في أوائل القرن العشرين دون أن يصدر عنها تراجع عن هذا القرار.
كانت أموال الأوقاف في الحجاز كثيرة ومغرية وكان بعضها بمثابة المعاشات والمنح يستفيد منها الفقهاء والطلاب.. وقد تبنى الشناقطة سياسة التمغرب في تلك الفترة المتقدمة لدوافع أغلبها يتعلق بالأوقاف قبل أن تدخل السياسة وصراعات الهوية على الخط بعيد الاستقلال.
واليوم ونحن في زمن تعيد فيه الأمم تفكيك ذاكرتها وتنبش في تاريخها بحثا عن بذور تشكل سياسي مستقل أو حتى باقي وشم لإرث امبراطوري خاص يوظف في تأطير الحاضر وإعادة رسم نفوذ جديد عبر أدوات القوة الناعمة سواء كانت ثقافية أو مذهبية أو حتى رموز من الزي أو الفن أو حتى ذكريات الماضي المشترك، حيث يصبح استحضار التاريخ ضرورة استراتيجية لتحصين الذات وبناء المكانة والتأثير؛ لكن المفارقة المؤلمة هنا تكمن في أن بلدا مهما كموريتانيا يمتلك واحدا من أعمق الامتدادات الحضارية في الغرب الافريقي الذي تتكالب عليه الدول من كل جهات الدنيا، لا يزال يخوض غمار صراع تحديد الذات ومحنة هوية مختلة تتجسد في السعي المستمر ودون نجاح حاسم في اللحاق بفضاء لم يكن يوما في التاريخ الحقيقي جزءا طبيعيا منه، تارة تحت راية المغرب العربي وتارة أخرى باسم التمغرب فقط.
لقد عمق هذا السعي الدؤوب أزمة الهوية وهز الثقة في النفس وكرس الهشاسة حين قطع مع امتدادات تاريخية أصيلة كانت ستجعل من هذا البلد مركزا حضاريا موازيا للمغرب العربي ومنافسا له، لا جزءا ثانويا يسعى للحاق به.
إن أمام هذا البلد اليوم، وستظل أمامه ربما إلى أجل لا يمكن تحديده فرصة للتحول الى قطب افريقي عربي اسلامي مواز للمغرب العربي بل حتى أهم منه إن وجد من يتبنى هذا الامر ويتصدى له، فالطريق إليه سالك ومفتوح خصوصا و أن التيارات البان افريقية الحديثة تطبعها لمسة دينية لا تخفى في سلوك قادتها ومظاهرهم وخطاباتهم خلافا للتيارات الأولى التحرربة أيام الاستقلال التي غاب فيها الجانب الروحي و التراثي ؛ إن هذا يجعل من تجديد الصلات الحضارية التقليدية بهذا المجال والدور التاريخي المعروف لهذا البلد فيه أمرا بالغ الحيوية والنجاعة في صياغة أي رؤية او ممارسة جيوسياسية ناجعة، تماما كما تمارسها كل الدول اليوم وتتنافس في تطويرها والدفاع عنها.
ان المفارقة في هذا السياق تكمن في أن هناك من بين القوى الاقليمية من يمارس الجيوبولتيك في مجالنا الإفريقي باحترافية كبيرة وهذا حقه، ولكن المؤسف أن يوجد من يخدم هذه الممارسة دون التفكير في أن لبلده الحق هو الآخر في أن تكون له نظرته ومنهجه في النفوذ والتأثير بدل التأثر.
إن إحياء المراكز والاقطاب الجيوسياسية هي وجهة هذا العصر وموضته، خصوصا وقد بدأت موجات العولمة تتكسر أمام تشبث الشعوب بخصوصياتها و أمام تمسكها بثقافاتها ومواريثها؛ وهو أمر يستدعي منا جميعا التفكير في فرصة أكبر لهذا البلد بدل الرجوع به مجددا إلى مشاريع الذوبان.