
بعد عقود من التجربة الديمقراطية المقيدة، لا تزال موريتانيا بعيدة عن الرسو على برّ الأمان السياسي، بل تبدو اليوم أكثر حيرة من أي زمن مضى، وقد أضاعت البوصلة، ضمن مشهد سياسي غامض ومرتبك وطبقة سياسية تائهة بلا أهداف واضحة ، لاتعرف ماذا تريد ، ولا كيف يمكن الوصول له.
ورغم تعاقب الحكام ، والكفاح الطويل من أجل تحول ديموقراطي ناجح، فإن المشهد السياسي مشوه الى حد بعيد ، بلا تراكمات ، ولاتقاليد يمكن البناء عليها، والمؤسسات المنتخبة كيانات شكلية استعراضية تفتقر إلى الشرعية الشعبية الحقيقية.
أحد أبرز مظاهر هذا الخلل الديمقراطي غياب التوازن السياسي في البرلمان، حيث تهيمن السلطة التنفيذية على أغلبية مطلقة، لا تعكس واقع ومزاج المواطن الموريتاني المعارض في غالبيته والمتطلع للتغيير، وهي تناقض كثيرا نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي كشفت الانقسام الحاد داخل المجتمع. هذا الوضع النيابي المصطنع لم يكن ثمرة اقتراع حرّ وتنافس نزيه، بل نتاج عمليات ميكانيكية للتحكم في الاقتراعات باستخدام آليات التأثير التقليدي على قناعات المواطنين ،ومقايضتهم الولاء بالعافية ،هذا الوضع هو الذي أفرغ البرلمان من دوره الحقيقي كفضاء لتمثيل الإرادة الشعبية والرقابة على أداء الحكومة.
و على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن الاستقرار المزعوم يظل هشا و ينذر بانفجارات غير متوقعة. فالفشل التراكمي للسياسات التنموية وضع البلاد في أزمة اجتماعية تتفاقم يوما بعد يوم، حيث ما تزال نسب البطالة مرتفعة، والفقر يستفحل وتنضم عائلات جديدة كل ليوم لقائمته، والخدمات الأساسية تعاني من تدنٍّ خطير في الجودة. في سياق وضعنا الحالي، يصبح الحديث عن أي استقرار سياسي أو اقتصادي أقرب إلى الوهم، إذ لا يمكن لأي نظام أن يستمر دون أساس اقتصادي متين يضمن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
إن ما تحتاجه موريتانيا اليوم ليس مجرد انتخابات تُجرى وفق قواعد محسوبة سلفًا، ولا إلى حوارات سياسية لا تتفق الطبقة السياسية على أهدافها، وتبدوا في النهاية لقاءات من أجل اللقاء، ووسيلة لكسب الوقت دون تحقيق نتيجة.
في ظل هذا الواقع، تفقد الأجيال الشابة تدريجيًا الثقة في الطبقة السياسية، بل وحتى في مشروع الدولة نفسه، حيث لم يعد النظام السياسي والاقتصادي قادرًا على تقديم إجابات مقنعة للأجيال الجديدة. التي يدفعها الإحباط المتزايد، للاغتراب السياسي واليأس، ومن باب أولى أن تصبح فريسة سهلة للتيارات المتطرفة ، تتطلع لإيجاد حلول خارج الأطر التقليدية.
إن البلاد بحاجة إلى إصلاح جذري يعيد الاعتبار للتمثيل الشعبي، ويحقق توازنًا سياسيًا يعكس الإرادة الحقيقية للناخبين ، بدل أن يكون انعكاسًا لتوازنات متجاوزة داخل السلطة.
البلاد اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تعيد توجيه مسارها نحو ديمقراطية حقيقية قائمة على أسس متينة وعادلة، وإما أن تستمر في الدوران في حلقة مفرغة،تحول التغيير مجرد لشعار لا أثر له في الواقع، وتظل موريتانيا دولة تبحث عن بوصلتها دون أن تجدها، و تتسع فجوة الثقة بين الدولة ومواطنيها، ويفقد الشباب الأمل في مستقبل يلبّي تطلعاتهم.
قبل أي حوار يتعين التوقف لإعادة بوصلة البلد إلى الاتجاه الصحيح الذي يبعث الأمل و يقنع شعبنا بأننا بدأنا نسلك الطريق الصحيح نحو دولة العدل و المساواة ، وعندها فقط يمكن أن يستعيد شعبنا ثقته في المسارات والمسالك الديمقراطية والتنموية، وغير ذلك وهم وتضييع للوقت.
النائب يحيى ولد اللود