موريتانيا والنسخة الجديدة من الحرب التجارية

في أقل من شهر على عودة الرئيس، دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أطلق سلسلة من المراسيم والقرارات جذبت اهتمامًا عالميًاكبيرا، على رأسها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، وكذلك من مجلس حقوق الإنسان الأممي، بالإضافة إلى إغلاق وكالة التنمية الأمريكية، وغير ذلك من المراسيم التي باتتتشكل المزيد من الانفصال بين أمريكا والتعاون العالمي، وتطرح علامة استفهام أمام دورها في الحوكمة العالمية، ولعل قرار استخدام عصا الرسوم الجمركية في وجه الجميع هو الأكثر خطورةبين هذه القرارات والمراسيم ، إذ يثير المخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية جديدة، وخاصة مع فرض ضرائب إضافية بنسبة 10% على الواردات الصينية، لتضاف إلى تلك التي كانت مفروضة في السابق.

 

 

(1)

 

 

حرب ضد الحلفاء قبل الخصوم

 

وقد يكون من المثير للاهتمام أن النسخة الجديدة من الحرب التجارية أو حرب التعريفات الجمركية التي يشنها ترامب شكلتتهديدا للحلفاء قبل الخصوم، وبدأت بالشركاء الرئيسيين الأقربلأمريكا قبل المنافسين الأبعد، حيث فرض رسوما جمركية نسبتها 25% على المكسيك وكندا قبل أن يتراجع ويعلق قراره لمدة شهر بعد تعهد البلدان بتعزيز أمن الحدود، كما ألمح بأن الاتحاد الأوروبي قد يكون هو الكيان الموالي مع تهديده بفرض رسوم أخرى على اليابان،ودول أخرى لم يسميها. ورغم مزاعم ترامب أن الهدف من فرض الرسوم الجمركية هو تقليص عجز الميزان التجاري بين الولاياتالمتحدة وكندا والمكسيك، وحماية الصناعات والوظائف المحلية، إلا أن تصريحات له سابقة خلال حملته الإنتخابية تكشف السبب الحقيقي  وراء هذه الرسوم التي تعد استمرارا لسياسته "أميركا أولا"، وخطوة مخطط لها بعناية من أجل إعادة تشكيل العلاقات التجارية العالمية للولايات المتحدة لضمان الهيمنة على الاقتصاد العالمي، مما يشكل استفزازاً أمريكيا للقواعد الدولية ، وربما إعادة تعريف لعلاقاتها مع حلفائها. وقد باتت رسوم ترامب الجمركية على حلفاء أمريكا تذكرنا بمقولة الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحقالشهيرة: "إن من يتعامل مع أمريكا كمن يتاجر في الفحم، لن يناله في النهاية إلاّ سواد الوجه واليدين"، وسلسلة الإجراءات الجمركية هذه تظهر أن سياسة إدارة ترامب للتجارية الدولية تطورت من "استهداف الصين لوحدها" سنة 2018 إلى "حرب جمركية شاملة"ضد العالم قد تفاقم الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها، وتجعل ترامب أكثر عزلة على المستوى الدولي، وقد تكون رسومهالجمركية على الحلفاء ليست سوى ضغطا من أجل ضمان الولاء،ورسالة مفادها إذا ضرب الحليف الأقرب فالدور قادم على الغريم الأبعد، وهذا ما تؤكه تصريحاته الأخيرة بعد الإعلان عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الولايات المتحدة من الصلب والألومنيوم، حيث قال للصحفيين، أنه سيعلن أيضا عن رسوم جمركية أخرى مستقبلا على أن تدخل حيز التنفيذ على الفور تقريبا.

 

 

(2)

 

 

كيف ردت الصين

 

 

بالنسبة للصين، هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها سياسات إدارة ترامب الأحادية الجانب، ففي عام 2018، شن ترامب حرب تعريفات جمركية واسعة النطاق ضدها بدعوى "التجارة غير العادلة". ولكن المختلف هذه المرة أن ​​اعتماد الصين على التكنولوجيا الأمريكية انخفض بشكل كبير عما كان عليه قبل سنوات، حيث تسارعت وتيرة الاستقلال التكنولوجي في الصينخلال السنوات الماضية، مما زاد من معدل إحلال المنتج المحلي في مجالات مثل الرقائق الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي بشكل كبير،بل إن الصين قد حققت الريادة في مجالات مهمة مثل الطاقة المتجددة، والسيارات الكهربائية، وصناعة السفن. في المقابل لم تكن عملية "إعادة توطين الصناعات" في أمريكا سلسة، ولا تزال سلسلة التوريد تعتمد إلى حد كبير على الصين، وهذا ما تعكسه التدابير المضادة التي اتخذتها الصين ضد حرب ترامب التجارية الجديدة،حيث عبرت وزارة الخارجية الصينية عن "إستياء الصين الشديد ومعارضتها بشدة لفرض رسومًا بنسبة 10٪ على منتجاتهاالمصدرة إلى الولايات المتحدة بحجة مشكلة الفنتانيل"، وأضافت"أن الصين ستتخذ الإجراءات اللازمة للرد وستحافظ بحزم على حقوقها المشروعة"، كما أكدت أن "مشكلة الفنتانيل هي مشكلة أمريكية" مشددة في الوقت نفسه على أنه : "لا يوجد منتصر في الحروب التجارية وحروب الرسوم الجمركية" مضيفة "أن فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية من جانب واحد ينتهك بشكل خطير قواعد منظمة التجارة العالمية، ولا يحل مشاكلها الخاصة، بل يضر بكلا الطرفين وبالعالم". التدابير المضادة التي اتخذتها الصين لمتتوقف عند التصريحات الدبلوماسية، بل الأهم من ذلك أنها تنطوي على معاملة بالمثل، حيث فرضت الصين تعريفات جمركية بنسبة 15% على وردات الفحم والغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، و10% على النفط الخام الأمريكي والآلات الزراعية، كماشنت الصين أيضًا هجومًا مضادًا على المستوى القانوني وقررت رفع دعوى قضائية لدى منظمة التجارة العالمية لاستخدام الوسائل القانونية لمحاربة الأحادية الأمريكية، وهي خطوة تحمل أهمية رمزية كبيرة، إذ تظهر أن الصين لا تزال ملتزمة بقواعد التجارة العالمية في حين تعمل أمريكا على تقويضها، وبالإضافة إلى الرسوم الجمركية والإجراءات القانونية الانتقامية، اتخذت الصين أيضًا سلسلة من التدابير الاقتصادية الأكثر استهدافًا لزيادة الضغط على الولايات المتحدة، حيث أعلنت عن تنفيذ ضوابط التصدير على المعادن الرئيسية مثل التنغستن والتيلوريوم والموليبدينوم والإنديوم، وتلعب هذه المعادن دوراً لا يمكن الاستغناء عنه في الصناعات عالية التقنيةمثل أشباه الموصلات، وتعتمد الصناعات ذات الصلة في الولايات المتحدة بشكل كبيرعلى إمدادات الصين من هذه المعادن.

 

 

 

(3)

 

 

التداعيات على موريتانيا

 

 

بمجرد توليه لمنصبه، اتخذ ترامب إجراءات سريعة لتعزيز تعافي صناعة الطاقة في أمريكا على رئسها تشجيع زيادة إنتاج النفط والغاز، و‌تخفيف القيود التنظيمية البيئية المفروضة على هذه الصناعة، وكذلك ‌رفع القيود المفروضة على تصدير الغاز الطبيعي المسال، هذا التطور يوفر للولايات المتحدة فرصة كبيرة لتوسيع صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى السوق الأوروبية خاصة بعد توقف صادرات الغاز الروسي إليها عبر أوكرانيا، هذا بخصوص الطاقة الأحفورية، أما بخصوص الطاقات المتجددةفالأمرعلى النقيض من ذلك، حيث تعارض إدارة ترامب بشدة تطويرها، وبشكل عام لقد بات من المؤكد أنه مع تولي ترامب منصبه، سوف يتم تعديل وإعادة تشكيل مشهد الطاقة العالمي بشكل أكبر، وهو ما يطرح  تحديات، ويخلق فرص كبيرة في نفس الوقت أمام الغاز الموريتاني، ففرض الصين لرسوم جمركية كبيرة على الغاز الأمريكي في ظل إنسحاب الأخيرة من ﺍﺗﻔﺎﻕ ﺑﺎﺭﻳﺲ قد يؤدي إلى تحرير ﻣﺴﺎﺣﺔ أكبر في ﺴﻮﻕ العالمي للغاز ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﻝأمام الغازالموريتاني، الذي كان ﻣﻘﻴﺪا جدا بالجغرافيا، وقدرتهالتنافسية محدودة في ظل السيناريو المتسق مع اتفاق باريس، كما أن زيادة مدة ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺬﻫﺒﻲ ﻟﻠﻐﺎﺯ قد يفتح الباب أمام ﺗﻄﻮﻳﺮ المزيد من الحقول البكر، مما قد يخلق فرصة لحقل بئر الله الخالص لموريتانيا رغم المنافسة الدولية الشرسة بين الكبار، ولعل النافعة الأكبرللإقتصاد الموريتاني هي زيادة الطلب على الملاذ الآمن، مما رفع أسعار المعدن الأصفرإلى مستويات قياسية فوق 2900 دولارا للأونصة، أما الضارة هنا والتأثير الأكبر على موريتانيا، فقد يكون على مستقبل مشاريع الطاقات المتجددة، والهيدروجين الأخضر وخاصة في ظل التخلي المؤقت لأمريكا عن فرصة المشاركة في التحول إلى الاقتصاد الأخضرعلى المستوى العالمي، وعدم تنويع موريتانيا لشراكاتها الاستراتيجية، حيث بقيت محصورة في الشركات الأمريكية و الغربية رغم تخلفهم عن الركب الشرقي في هذا المجال. ضرر آخر قد يطال موريتانيا وربما الأكثر تأثيرا على الاقتصاد الوطني، وهو التأثير على أسعار خامات الحديد التي قد تتراجع تحت ضغط نقص الطلب، ففي عصر ما بعد العقارات والبنية التحتية في الصين، تعتبر صادرات الصلب قوة دعم لهذه الصناعة، وقد تؤدي السياسات الأمريكية إلى فائض في طاقة إنتاج الصلب في دول أخرى، مما سيضغط على مساحة تصدير شركات الصلب الصينية، و يقلل من إنتاجها، و بالتالي من الطلب على المادة الخام، كما أن رسوم ترمب الجمركية لا تؤثر فقط على خام الحديد، بل قد تؤثرعلى جميع السلع الأساسية بشكل محتملمما قد يؤثر على أسعار قطع الغيار، وبالتالي على ربحية شركة اسنيم ومشاريعها ومساهمتها في ميزانية الدولة. 

 

 

على الرغم من أن الحرب التجارية الثانية أوالجديدة لا تزال عبارة عن مواجهة تركزعلى التعريفات الجمركية، إلا أن المنطق الذي تقوم عليه قد خضع لتغييرات عميقة مقارنة بمنطق الحرب الماضية،وتصرفات إدارة ترامب مهما تبدو بلطجية، لكنها في الواقع تحركات مدروسة تحت ضغط سياسي واقتصادي محلي كبير، إذ تعاني أمريكا من معضلة "ثالوث الارتفاعات" المتمثلة في ارتفاع التضخم، وارتفاع عجزالميزانية، وارتفاع الدين العام ولكن استراتيجية "النصر السريع" التي  يتبعها ترامب عن طريقإحداث ما يكفي من الصدمات الاقتصادية في فترة قصيرة من الزمن لاستخدامها كأوراق مساومة سياسية قد لاتكون فعالة بشكل كبيرهذه المرة نتيجة لاختلاف البيئة الاقتصادية لعالم ما بعد كورونا،وهذا ما يعني أن الحرب التجارية الجديدة لن تكون مجرد نسخة طبق الأصل من الحرب الماضية، بل ستكون منافسة اقتصادية عالمية أكثر تعقيداً وربما أطول أطول أمداً، مما يصعب علىالولايات المتحدة إجبار سلاسل التوريد العالمية، و التجارة الدوليةعلى إعادة تنظيم نفسها وما يخدم مصالحها الاقتصادية، أما تداعيات هذه الحرب التجارية على الاقتصاد الموريتاني فقد تتجاوز أسعار المواد الأولية، وقطاع الطاقة والمعادن لتشمل سعر الصرف العملة وعلاقة ذلك بمؤشرات الاقتصاد الكلي والتجارة الخارجية، وذلك في حالة تنفيذ أمريكا لكل القرارات التي وقعها الرئيس ترامب مؤخرا، وتلك التي يهدد بها، وهو ما يرفع من تطورت هذ الحرب إلى مستويات أشمل وأعمق.

 

 

د.  يربان الحسين الخراشي

ثلاثاء, 11/02/2025 - 16:38