وترجل الفارس الذي ظل٬ إلى آخر رمق من آخر نفس٬ شامخاً كالطود في وجه كل العواصف والأعاصير. لم تُغْرِه الوظائف والمناصب -وقد عرضتها عليه كل الأنظمة بدون إستثناء- لأنه آمن أن المكان الطبيعي للوطنيين الموريتانيين في تلك الظروف هو السجون والمعتقلات. لا المكاتب والفِلل. وكان مُحقاًّ.فمن منا يذكرأسماء الوزراء ورؤساء الحكومات ناهيك عن إنجازاتهم عندما كان"بدر" -كما يسميه رفاقه ومحبوه- "مجرد" معلم نقابي نشط، زعيم لتنظيم سري مطارد ولكنه يفرض تأميم الثروة الوطنية والإستقلال النقدي ومراجعة المعاهدات مع المستعمر بل تتجاوز صيحاته الحدود لتدعم حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها؟
لم يبال حينما نزل البعض بالخطاب السياسي إلى مستوى الإعلان التجاري، ولا حين هبطوا بالعمل السياسي إلى طقوس الفلكلور. لم يهتز ولم يهن ولم يلن حين وجد نفسه، في منعطفات عديدة من تاريخ الحركة الوطنية، وحيداً في سوح الوغى مع قلة مستعصية. بل زاده ذلك عزيمة وإصراراً و بقي واقفاً، شامخ الرأس٬ يعيد تنظيم الصفوف ويرتب طلائع الوثبة القادمة ضد قلاع الظلم والتخلف.
آمن منذ شبابه بأرقى قيم الإنسانية التي كانت تبدو له كبديهيات بحساب المنطق البسيط: إن العدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية حقوق طبيعية للجميع. إن قدر هذا الشعب هو أن يعيش معاً غنيّاً بتنوعه. إن الدعاية والممارسات العنصرية، سواء جاءت من حاكم متسلط أو من سياسي إنتهازي، تستدعي مواجهة مفتوحة لا مهادنة فيها ومهما كان الثمن. رفض، وهو خريج المحظرة حيث حفظ القرآن ودرس المتون، أن يُسْتَغَل الدين لأغراض الدروشة السياسية.
لم تكن تلك القناعات تراتيل يحتفظ بها لنفسه بل كانت برنامجا سياسيا تخدمه طاقته المتوقدة وعزيمته الفولاذية ويلهم آلاف الشباب الوطني الذين قدم لهم "بدر"٬ بسلوكه ومواقفه قبل خطابه، قدوة جديرة بالإحتذاء. بقي "بدر" موريتانيا أصيلاً وإذن بسيطاً: بحكم التكوين٬ لم يكن ليجد لنفسه موقعا آخر غير مناهضة المستعمر وخلفائه. وبحكم الإلتزام، لم يكن يعرف لنفسه خندقاً آخر غير خندق الفقراء والضعفاء والمظلومين.
وحده من كل السياسيين٬ كان "بدر" يحتفظ بشبكة واسعة من العلاقات مع الشباب الموريتاني من مختلف الأجيال ومن كافة أصقاع موريتانيا. وكثيرون هم الموريتانيون الذين يستحضرون الآن، وهم يغالبون دموع الحزن والأسى، ذكرياتٍ وموافق شخصية مع "بدر". منهم الطلاب والفلاحون والمُنَمُّون وعمال اليومية الذين كان يصر على التواصل المباشر معهم. لم يكن أحدهم ليتفاجأ بتلقي مكالمة هاتفية من "بدر" تحمل حلا لهذه المشكلة أو تلك٬ أو ببساطة "فقط للإطمئنان عليك، منذو فترة لم نجد أخبارك".
كعشرات الموريتانيين٬ حظيت بمعرفة "بدر" عن قرب وربطتني به علاقة متميزة أفخر وأتشرف بها. وكنت أصر٬ في كل مرة أزور فيها البلد، أن أزوره في بيته وفي كل مرة كان يكرمني بدعوة شباب آخرين في بيته العامر ونقضي ساعات من النقاش تضبط إيقاعه تحليلاته الرصينة. من الصعب أن يفرز المرء ذكرياته مع رجل بهذا الوزن٬ وأن يفضل أمثلة على أخرى. لذا٬ سأستحضر٬ بتعسف، موقفين أخالهما يجسدان المعدن الأصيل لهذه الشخصية الفريدة:
-لم يكن "بدر" ينظر لنفسه كزعيم أو رئيس. الحقيقة أنه لا يحتاج ذلك٬ فقيادته كانت طبيعية٬إنتزعها بجدارة. وكان يجد سعادة حقيقية عندما يكون في ساحات العمل العام حيث يتصرف كمناضل بسيط في خدمة قضية أوسع وأكبر من شخصه. في صيف 2009 ٬ في أوج معركة الديموقراطيين الموريتانيين ضد الإنقلاب العسكري٬ زرت البلاد في مناسبة أسرية حزينة وفي طريق العودة مررت عليه في بيته لأطلعه على ما كنا، في تنظيم "من أجل موريتانيا"٬نقوم به في فرنسا ضد الإنقلاب. في نهاية الحديث٬، أشار بإقتضاب إلى وجه محدد من تلك الأنشطة نصح بتكثيفه. بالمقابل سمحت لنفسي بالقول إن محاولة إقتحام مبنى البرلمان في نواكشوط كانت جسورة وكان سيكون لها زخم أكبر لو كللت بالنجاح. أبدى تفهمه دون أن يعلق. بعد عودتي إلى فرنسا بأيام قليلة، فوجئت بمكالمة من أخي وصديقي عبد الله ولد بدر الدين، يقول لي إن الوالد يخبرك أنهم إقتحموا الآن قاعة الإجتماعات بالجمعية الوطنية وسيعقدون، بعد لحظات، جلسة تحت رئاسة رئيس الجمعية الوطنية وقتها -ورأس حربة الدفاع عن الديموقراطية في تلك المعركة- السيد مسعود ولد بلخير (أطال الله عمره).
-لم يكن المرض ولا الألم ليشغلا "بدر" عن تحمل مسؤولياته تجاه الفئات الأكثر فقراً وحرماناً من أبناء شعبنا. يومان قبل سفره الأخير إلى الجزائر، كلّمته للاطمئنان على صحته، وورد إسم أحد الأصدقاء في حديثنا فإذا به يقول: "لم أره مؤخراً والواقع أنني أحاول التواصل معه لأنه، كما تعلم، يشتغل في وكالة كذا". تذكرت أن أحد أفراد أسرتي يعمل بنفس الوكالة وسألت إن كانت له حاجة بهم. فأجابني فورا: "نعم، والواقع أنني أحتاجهم دائما. هم مسؤولون عن تقديم العون للفقراء ولدي دائما قرى وآدوابه وأسر في الأحياء الفقيرة تحتاج المؤازرة وإن لم تجئني رحت أبحث عنها".
كان ذلك "بدر الدين": رسوخ في القناعات٬ صلابة في الدفاع عن الحق٬ تواضع منقطع النظير٬ وخدمة للفقراء وتربية للأجيال.
رحمك الله وأنت تغادر هذه الفانية نظيفاً شامخ الرأس لتستقر في تاريخنا كآخر تجسيد لضمير موريتانيا الحي، وكمؤلف أكثر صفحات تاريخها إشراقاً ونصاعة.
نَمْ قرير العين فقد بلغت رسالتك وتركتها في قلوب آلاف الشباب الذين ألهمتهم وتعلموا منك وعليك وإن وجدوا أنفسهم اليوم يتامى ضائعين. غداً، ستطلع من رحم هذا الشعب المنكوب أمواج هادرة من الشباب تواصل مشوارك وتدك آخر معاقل الظلم والفساد، وتحطم أصنام العصبيات البدائية... فالليل مهما طال يتبعه الصباح.
اللهم إرحم محمد المصطفى ولد بدر الدين وأغفر له وتجاوز عنه وأحسن نزله. اللهم إنه أفنى عمره في كفاح الظالمين وفي الدفاع عن الفقراء من عبادك والمعوزين. اللهم إنا نشهد له بحفظ القرآن وتلاوته وبإرتياد المساجد والقيام فيها. اللهم ارحمه وجازه عنا كل خير.
وداعاً يا أغلى الرفاق٬ وأشرف الرفاق وأشجع الرفاق... ووداعا يا بدر الرفاق وبدر كل الموريتانيين.
عمر ولد ددّه ولد حمّادي
جنيف٬ 9 أكتوبر 2020