في هذا الشتاء القارس يحلو السمر مع شعراء شنقيط، من خلال أدبهم الرفيع، ومطارحاتهم الشعرية، ضمن نسق من معرفة تراث المدينة، وعادات وتقاليد القوم في فضل الشتاء. ففي إحدى العطل الصيفية، أمدنى العالم الشريف، المقرئ الورع ملاي أحمد بن سيد محمد رحمه الله تعالى بأبيات من تراث علمين من أجل علماء مدينة شنقيط، هما: الدي بن السبتي أحد أئمة الجامع العتيق، والشاعر اللبيب، والفطن النبيه، ومنَّ بن محمد عبد الله بن الشيخ بن حامن، أحد علماء المدينة، وقاضيها، وأستاذها الذي أقرأ الكثير من أبنائها. وقد مر على تلك الأعطية سنوات لم تظفر بما تستحقه من العناية، والنشر لكي تستفيد منها القراء، ومحبو هذين العلمين البارزين ممن لا يعرف لهما مقدارهما من قرض الشعر. وحتى أقضي دينا راودني عند استلامهما بأن أطلع عليهما من يبحث عن شعر أهل شنقيط، وظرفهما وتأدبهما، فها هو الوقت المناسب والظرف الملائم، لقاء قضاء دين فائتة، تعطي لكل حق حقه، وتثبت أهمية نشر تراث المدينة الضائع. فهذه المشاعرة موضوعها: "الشاي"، و"كافة"، وكأنها مشاعرةبين القديم المتمثل في الشاي وشربه، وبين الدخيلة كافة التي دخلت إلى بيوت الشناقطة من دون استئذان، فقام كل شاعر ينافح عن معشوقته ويثبت ضرورة شربها دون صاحبتها، كل ذلك ضمن أسلوب بسيط ولغة سلسة. ويظهر أن الإمام الدي قد لبس لبوس الحضارة وشمر عن ساعديه للدفاع عنها، غير أن القاضي منّ تمسك بالتراث ونافح عنه بكل ما يمتلك من أدوات الإقناع والتي يتقنها من خلال تخصصه الخبير به. وإليكم النص كما كتبه ونقله المرحوم ملاي أحمد بن سيد محمد رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه، وللعالمين الرحمة والجنة والرضوان، وهذا أوان البدء في القول حين يقولان:
قال الدَّي:
كؤوس شاي بنعناع القرى مزجــــــت بماء شنقيطتجلى من شجا الحزن
أشهى إلى القلب منها أكِؤس ملئت بيض عمائمها من كافة اللبــــــــــــــــــن
كأن إبريقها يقي دما عبقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وفي الكؤوس تراه أبيض البـــــــــــــــــدن
فرد عليه منَّ قائلا:
يا أهل شرب الأتا قوموا بلا وهن من أجل معضلة حلت بذا الزمن
تدعى بكاف وما كاف لنا أبــــــــــدا شرابها عن لذيذ الشاي في الزمن
ثم أرف الدَّي مناديا
يا أهل كافة لا تصغوا مسامعكم لقول قافية لحبر ذا الزمــــــــــن
يهجو لكاف وما ينفك سامعهــــــــــا تزيل عنه هموم الذم والوسن
فاتجه إليه منَّ بأسلوب النداء، قائلا:
يا شاعر القصر بل يا شاعر الزمن ومادحا كاف في سر وفي علن
وأنت تعلم ما فيها وتكتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه والله يعلم ما فيها من المحــــــــــن
أطلت فيها مديحا كي تعرضهـــــــــــــــــــــا لألسن الشعراء القح في الزمن
عرضتها لهجاء وهي قائلـــــــــــــــــــــــــــــة يا ليت معرفتي إياك لم تكـــــن
فأردف الدَّي، منافحا ومختتما:
يا باذل الشاي بذل الحاذق الفطن إذ قَلَّ باذلُه في الصين واليمـــــــــــــــــــــن
أما كفاك الذي بطيب يشربهــــــــــــــــــــا وما حوت مكة من مملق وغنــــــــــــــي
والسند والهند والروم العظام إلـــــــــــى من كان يسكن في البيد وفي المدُن
وما لهم في شراب الشاي من أرب سوى المبيع لمن يهواه بالثمــــــــــــــــــــــــن
وخلاصة القول أنني أترك الحكم على هذه المشاعرةللأدباء، ولمن له الباع الواسع، في النقد والتقييم. وما جهدي فيه إلا الرواية والنشر، واعتقادي فيه أنه يمثل نظرة بعض العلماء الفقهاء إلى تراث مدينتهم وخاصة في مجال الشعر، ومن يعرف الدي بن السبتي يعلم علم اليقين أنه شاعر فحل في الشعر الشعبي، أما الشعر الفصيح فهذا أنموذج منه يستطيع المتأمل أن يقيس بهدرجة شاعريته. وأما القاضي "من" فلا يعرف له الكثير من الشعر، إلا أن هذا الأنموذج يمثل هو الآخر ما يمكن أن يعتبر شعرا له.