التعددية الشكلية ليست ضماناً ضد الفساد

هل كان قرار إلغاء «التعددية الحزبية» في عام 1961 قراراً مجسِّداً للفساد والاستبداد، كما قال أحد الكتاب، في تبرير ضمني لما بات يعرف باسم «ملفات فساد العشرية»؟ 
 تمثل التعددية الحزبية أحد أهم مكاسب العصور الحديثة، ومن الصعب أن نصف إلغاءَها بالعمل الجيد أو المفيد. لكن هل يمكن للتعددية الحزبية أن تسبق الدولةَ؟ وهل حدث تاريخياً أن كانت التعددية الحزبية إلا تتويجاً لمسارات طويلة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الكافي لضمان أرضية آمنة لقيام حياة سياسية تعددية؟ 
الحقيقة أن النسخة التي كانت قائمة لدينا من التعددية الحزبية في الخمسينيات لا يمكن اعتبارها تعدديةً حربية بالمعنى الصحيح للكلمة، إذ كانت لدينا أربعة كيانات تعتبر نفسَها أحزاباً؛ كان أولها يمثل الوجهاء والقادة التقليديين (وهو أقربها لسلطة المستعمر)، وكان ثانيها يطالب بالانضمام إلى السنغال، وثالثها يدعو إلى إلحاق البلاد بالمغرب، بالإضافة إلى حزب رابع كان يُعد قريباً من مالي.. أي أنها في المجمل كانت أحزاباً ذات ولاءات خارجية. أما إذا بحثنا عن برامج سياسية لدى هذه «الأحزاب» فلن نجد في الغالب شيئاً من ذلك، وربما يعود السبب إلى أن معظم قادتها لا يحملون غير مؤهلات تعليمية متواضعة لا يتجاوز أعلاها مستوى الإعدادية.
ومع ذلك فإن هذه الأحزاب حين اجتمعت في مؤتمر الطاولة المستديرة وتوصلت إلى أن التعددية الحزبية لا تلائم مجتمعاً قبلياً مِن البدو الرحل تسوده الأمية والقبيلة والفقر والتشرذم وانعدام الدولة.. كانت على صواب في ذلك الاستنتاج، ومن ثم فقد قررت مجتمعةً اعتمادَ نظام الحزب الواحد، وعياً منها بأولوية الدولة على التعددية الحزبية التي تتعذر ممارستها في ظل «اللادولة».
 وحين جاءت نسختُنا من الأحادية الحزبية فقد كانت الأقلَّ عنفاً ودمويةً في أفريقيا والعالم العربي قاطبة، بدليل أنه في السنغال التي اعتمدت صيغةً استبدادية من التعددية الحزبية كان المعارضون يتعرضون للاعتقال بالمئات وللقمع والسحل، تماماً كما يحدث للنشطاء الطلابيين والنقابيين الذين تعفنت أجساد بعضهم في السجون، وتعرض آخرون للتصفية الجسدية. وهو الأمر الذي كان يحدث في تونس والمغرب. أما في الجزائر الثورية فكانت المعارضة تَعني الحكم مسبقاً بالموت، تماماً كما كان في غينيا بقيادة الزعيم الثوري الاشتراكي شيخو توري الذي كان يقدم معارضيه طعاماً للأسود الجائعة.
لقد كانت دولة الاستقلال في هذه البلدان جميعاً، دولة قمعية ودموية بامتياز، مع العلم بأنه لا وجود لمعارضات في أي من هذه الدول كانت تناهض استقلالَها أو تطالب بفصل جزء من الوطن أحرى بضمه جميعاً إلى دولة أخرى، خلافا لما كان عليه الحال لدينا.
صحيح أنه تم لدينا توقيف أشخاص أرادوا إفساد حفل إعلان الاستقلال، ربما نكايةً شخصيةً بالمختار ولد داداه، وعلى وقع الدعاية المغربية حينَها، كما حدثت اعتقالاتٌ محدودة في صفوف حركة يسارية كانت تعلن سعيَها إلى قلب نظام الحكم القائم وتفكيك «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» باعتبارها جزءاً من المؤامرة الرأسمالية ضد البروليتاريا الأممية. ولهذا يَعتبر الوزير والمثقف أحمد ولد سيدي بابا أن أحاديتنا الحزبية في ذلك الوقت كانت «تعددية في صيغة أحادية»، بدليل أن كل القرارات كانت تخضع لمداولات طويلة قد تستمر لعدة أيام، وأن حرية النقد كانت مكفولة داخل الحزب وداخل الحكومة، وأن الرئيس نفسه كان يتعرض للنقد من النواب والوزراء وعامة الشعب دون أي إشكال.. وأيضاً بدليل أنه في يوم الانقلاب عليه لم يكن هناك سجين سياسي واحد.
وهذا بطبيعة الحال مع العلم بأن أياً مِن معارضي نظام الرئيس المختار لم يكن يصدر فكرياً وسياسياً عن مرجعية تؤمن بالديمقراطية التعددية، بما في ذلك «الانضماميون» (أنصار البيعة)، واليساريون الذين كانت مرجعيتهم ستالينية أو ماوية.
 وعوداً على بدء فيما يتعلق بأهمية التعددية الحزبية في حياة المجتمعات الحديثة، أو أي مجتمع جاهز لها، فإن هذه الصيغة الإجرائية من الحكم لا تعد هدفاً لذاتها إلا بقدر ما تحققه من مصالح وما تدرؤه من مفاسد. ولا شك في أن التعددية الحزبية بصيغتها التي لدينا، وقد تبنيناها تحت ضغوط فرنسا بعد ثلاثة عقود من منحها إيانا الاستقلالَ، وبعد أن انتشرت ثمارُ التحديث متمثلةً في التعليم والتحضر وانحسار نمط الحياة البدوية.. لم تحقق لا حريةَ التداول داخل هيئات الحزب الحاكم ومؤسسات السلطة، ولا ترشيدَ السياسات العامة ومراقبتها ضماناً للصالح الوطني ومنعاً للفساد، بل أصبحت ربما أكبر نظام على وجه الأرض لتفريخ الرشوة والاختلاس والهدر والتبذير والزبونية، علاوة على الفئوية بجميع أشكالها البدائية المعيقة للتقدم والمدمرة للتنمية والمناهضة للمستقبل. وهذا ما يؤكد، ربما للمرة الألف، أن التعددية الشكلية لا يمكن أن تكون ضمانةً ضد الانحراف وتفشي الفساد وسيطرة الرداءة!

ثلاثاء, 24/12/2024 - 19:47