"حرصنا على أن يكون مهرجان مدائن التراث مناسبةً تراثيةً وإنمائيةً في الآن ذاته ."
الرئيس غزواني
تستعد بلادنا لإطلاق النسخة الثالثة عشرة (13) من مهرجانمدائن التراث، المقرر تنظيمها في مدينة شنقيط، ما بين 13 إلى 17 من شهر دجنبر الحالي. وحسب وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان، ستشهد النسخة المقبلة من المهرجان في شنقيط تطورا ملحوظا في المكونات الثلاثة للمهرجان، العلمية والفنية والتنموية. الغلاف المالي المخصص لنسخة هذا العام من المهرجان يتجاوز 16 مليار أوقية قديمة. وقال الوزير إن الغلاف المالي للمكونة التنموية تجاوز 4 مليارات أوقية شملت مجالات الطاقة والمياه، والزراعة والتنمية الحيوانية، إضافة لتدخلات المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الاقصاء "تآزر"، ومفوضية الأمن الغذائي؛ وأضاف الوزير أن تدخلات الوزارة، ستشمل في هذه النسخة تدشين محطة إذاعية ومتحفا؛ بالإضافة إلى ترميم متحف شنقيط ودعم مساجد ومحاظر، وترفيع الجوانب العلمية للمهرجان عبر نشر مجموعة من الكتب لأول مرة، وزيادة رواتب الأئمة واستحداث رواتب للمؤذنين. وفي الجانب الفني، ستستضيف النسخة فرقا موسيقية وشعراء من دول مختلفة. وتم تخصيص 12 مليار لتمويل الطريق أطار-شنقيط لفك العزلة عن المدينة.
مهرجان مدائن التراث (كان يسمى في الأصل "مهرجان المدن القديمة" حتى 2021) هو مهرجان دولي سنوي تنظمه وزارة الثقافة بالتناوب بين أربع مدن تاريخية في البلاد هي شنقيطووادان وتيشيت وولاته، بهدف إحياء وإعادة الاعتبار للمدن الأثرية. أقيمت أول نسخة من المهرجان عام 2011. عددت السلطات الموريتانية والجهات المعنية بتنظيم المهرجان عددا من الأهداف، منها محاولة فك العزلة عن المدن القديمة، التي كانت في السابق مراكز اقتصادية وثقافية حيوية مهمة في المنطقة، من أجل إخراجها من حالة الاندثار التي غلبت عليها في العصر الحديث. وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قد أدرجت، في عام 1996، المدن الأربعة على قائمة التراث العالمي، باعتبارها الشاهد الأخير على الحياة التقليدية في البيئة الصحراوية، وباعتبارها تمثل نمطًا مميزًا لاستغلال الفضاء يعكس نمط حياة السكان الرحل.
أمواج من الرمال متعددة الألوان، من الأبيض إلى الأحمر إلىالبيج، تتدفق باستمرار من الجنوب والشمال، وتصطدم بهضبة آدرار الأرجوانية المهيبة. تحتضن هذه الهضبة، التي تعبر موريتانيا بين صحاري المجابة الكبرى وآوكار، أربع جواهر: وادان وشنقيط في الشمال، وتيشيت وولاتة في الجنوب الشرقي. في هذه الصحراء القاحلة، تحكي هذه المدن قصصا لا تنتهي من الصمود والتكيف. هذه المدن القديمة كانت يوما مراكز تجارية وثقافية نشطة، تأسست في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وهي تعيش اليوم بصعوبة كبيرة، في بيئة معادية، وتصارع الرمال والرياح والنسيان. المدن الموريتانية القديمة تحكي تاريخ هذه المنطقة التي ارتبط مصيرها ارتباطا وثيقا بمنسوب المياه وطرق التجارة بين المغرب العربي والساحل وبلاد السودان. كانت المدن القديمة تقع على طرق القوافل الرئيسية، وكانت شنقيط أشهرها بلا شك، وتحولت على مر القرون إلى مدن كبرى للتجارة عبر الصحراء، وخاصة تجارة الذهب والملح. التجار الماهرون الشناقيطة أقاموا تجارة منتظمة مع المغرب العربي ومصر والجزيرة العربية، ولكن أيضًا مع غينيا وساحل العاج ونيجيريا؛وقد أدوا في الوقت نفسه دورا مهما في نشر الثقافة العربية والإسلامية. كانت القوافل التجارية القادمة من شنقيط تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 30 ألف جمل، تحمل الملح والصوف والبارود والتمر والدخن والقمح والشعير. وتعود من الجنوب بالتبر والعبيد والعاج والجلود وريش النعام؛ وتباع هذه البضائع في القاهرة وسجلماسة وفاس وخاصة في تلمسان، حيث كان أهل البندقية وغيرهم من الأوروبيين يشترون هذه البضائع.اليوم، تغزو الرمال ببطء باحات منازل شنقيط المهجورة، لدرجة أن أرضية غرف المعيشة القديمة، المتهالكة تحت حجارة الجدران المنهارة، ترتفع بأكثر من متر عن مستوى الشارع. لكن هذه المدينة تبقى روح البلاد. مسجدها الشهير، الذي كان لفترة طويلة الرمز الوطني لبلاد شنقيط، لا يزال قائما بمئذنته المربعة، متحديا الزمن. لكل مدينة محاور رئيسية كانت تُستخدم لوصول القوافل،أو تقود إلى الواحات والمقابر. جميع هذه المدن كانت محاطة بأسوار دفاعية، لم يتبقَ منها اليوم سوى أجزاء متناثرة، تفصل بين المدينة القديمة والأحياء الجديدة. تطورت هندستها المعمارية لتلبية متطلبات الحياة البدوية، حيث كانت المنازل تُستخدم كمخازن معظم أيام السنة، وتؤدي غرف المعيشة وظائف مختلفة حسب الموسم أو الوقت. كانت هذه المدن مراكز تجارية ودينية وثقافية إسلامية. بالرغم من نهاية تجارة القوافل، ورغم الصراعات المحلية والإقليمية، والجفاف، والمجاعات، والأوبئة، ونقل المراكز الإدارية والاقتصادية، والنزوح المستمر للسكان، لا تزال هذه المدن الأربع، وهي الوحيدة التي نجت حتى اليوم، تصارع من أجل البقاء.
في وادان، كانت المنازل تبنى بالحجر الرملي الوردي أو الرمادي، مع مادة رابطة من الطين والقش. وكان طلاء الطين يغطي جميع جدران المدينة، يحميها من الأمطار النادرة، مما أضفى عليها مظهرًا بسيطًا وأنيقًا للغاية. أما اليوم، فلم يبقَ هذا الطلاء إلا في بعض الأماكن، كاشفًا عن الحالة الخطيرة من التدهور التي تعاني منها المدينة بأكملها. ضحكات الأطفال، الذين كانوا يركضون في تعرجات الأزقة ويتسلقون السلالم الضيقة بين كتل المنازل قد تلاشت، وضجيج الحشود اختفى إلى الأبد. الصوت الوحيد الذي ينبعث الآن من هذه الأطلال الصامتة هو صفير الرياح التي تصطدم بعناد بواجهات الخرائب المهجورة. عائلات وادان انسحبت إلى جزء صغير من المدينة العليا، تاركة جميع الأحياء الأخرى مهجورة. وإذا كانت بعض المباني لا تزال قائمة في تلك الأحياء، فذلك بفضل بُعد نظر البنّائين القدماء، الذين زودوها بحواف تحميها من الرياح ومن الأمطار.
كانت وادان متصلة بمدينة ولاته عبر طريق تجاري مهم، وكانت مدينة مزدهرة للغاية، خاصة بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، لكن التجارة لم تكن مصدر ثروتها الوحيد. لقد أولى الموريتانيون دائما أهمية كبيرة للعلم والمعرفة؛ ظلوا سنة علىالمذهب المالكي، وقد جعلوا من المدن القديمة مراكز فكرية ذات شهرة كبيرة، تستقطب طلاب المنطقة. وقد احتفظت مكتباتهم ومحاظرهم أومحاضرهم- لأن اللهجة الصنهاجية تبدل الضاد ظاءً فيقال في الأبيض مثلا الأبيظ، والأخضر أخظر- حتى يومنا هذا بحوالي 40 ألف مخطوطة ذات قيمة لا تقدر بثمن. كان هناك وقت كان يعيش فيه ما يصل إلى 40 عالمًا في نفس الشارع في وادان! وبحسب أصل اسم هذه المدينة، فإن هذا صحيح بلا شك، لأن وادان تعني "مدينة الواديين": وادي النخل ووادي المعرفة.
على الطريق بين ولاته ووادان، استغلت تيشيت موقعها لتتطور وتصبح مدينة رائعة، بمنازلها المكونة من طابقين، وجدرانها العمياء في الطابق الأرضي، حيث يشكل الباب الفتحة الوحيدة التي تطل على الخارج. تقع تيشيت في منخفض عند سفح هضبة تگانت، وهي في مهب الرياح ومعرضة لغزو الرمال. وفقًا للأسطورة، تتراكب سبع مدن في موقعها؛ والمدينة التي وصلت إلينا الآن تُدفن بلا هوادة تحت الكثبان الرملية. لم يتبقَ منها سوى بضع منازل غمرتها الرمال حتى الطابق الأول. قبل قرن فقط، كانت واحة تيشيت تُمارَس فيها الزراعة تحت أشجار النخيل، وكانت قادرة على إطعام آلاف السكان. أما اليوم، فلم يتبقَ سوى عدد قليل من النخيل، تتلاعب بها الرياح وتئن وقد غمرها الرمل حتى منتصفها. في عام 1999، جاءت أمطار غزيرة لتوجّه الضربة القاضية لهذه المدينة، مدمرةً 80% منها. ومع ذلك، نجا من الكارثة، لحسن الحظ، مسجدها الرائع، بمنارته المربعة، التي تُعد الأجمل على الإطلاق.
واجِهات دور تيشيت المبنية بحجارة متعددة الألوان، تجعلها بمثابة متحف حي لأسلوب معماري موريتاني أصيل. تتباينالألوان الخافتة لبنايات تيشيت مع وفرة الزخارف الباهرة في ولاته، بتصاميمها البيضاء على خلفية بنية مائلة إلى الحمرة، التي تتميز بها الواجهات، والتي تحيط بالأبواب والمداخل وفتحات التهوية والنوافذ الصغيرة. عادة يتم طلاء هذه الزخارفبمادة محضرة من المغرة البنية والفحم والصمغ وروث البقر. من بين هذه الزخارف، تبرز بشكل خاص الورود المحفورة التي تحيط بالأحجار التي يلمسها المرء بيديه عند أداء التيمم، في هذه المدينة التي تشح فيها المياه. لكن جدران الساحات الداخلية هي التي تحمل جل زخارف ولاته الشهيرة. الأشكال البسيطة تتكرر بلا نهاية. تسلط هذه الزخارف الضوء على السلالم والأبواب والمناور والمنافذ، وتُعد من السمات المميزة لمدينة ولاته. ولاته ("مكان مظلل" باللغة البربرية)، يعود أصلها، حسب بعض المصادر، إلى عصر ما قبل الإسلام، فقد كانت، من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر، موقعًا تجاريًا مهمًا لدرجة أن اسمها ظهر على الخرائط الأوروبية. كانت عائلة المقري الشهيرة قد أنشأت في ولاته مستودعًا مسؤولًا عن جمع البضائع من الجنوب وتخزين تلك القادمة من الشمال قبل إعادة بيعها. وفي ولاته أيضًا كان يتجمع الحجاج من غرب إفريقيا قبل الانضمام إلى الحجاج في شنقيط، حيث تنطلق القافلة السنوية إلى مكة. وقد جعل هذا الحج مدينة شنقيط مشهورة لدرجة أن موريتانيا عرفت منذ زمن طويل باسم "بلاد شنقيط".
رغم الجفاف المأساوي المستمر منذ عقود، ترفض المدن القديمة في موريتانيا أن تستسلم. لا تزال عبقرية حضارتها القديمة تلهم الثقافة الموريتانية. تستوحي الزخارف التي تُرسم بالحناء على أياد وأقدام الموريتانيات حتى يومنا هذا زخارف الجدران في ولاته، وتجد هذه الزخارف على الحلي، ومنتوجات الصناع التقليديين من الخشب والجلد؛ وتجدها في تطريزات الملابس الرجالية، وصباغة ملاحف النساء، ونسج السجاد التقليدي، وحتى على العملة الوطنية، الأوقية. ولا تزال ألحان فالة، الموسيقية الشهيرة من شنقيط، والتي أصبحت رمزًا للموسيقى الموريتانية، تُعزف على التيدينيت. ألحان موسيقية تقليدية أخرى، مثل "أوديد"، الذي يُمَوْسِقُ عملية تحميل قافلة تيشيت، تخلد مختلف جوانب حياة المدن القديمة في أوج ازدهارها.
استجابة لطلب الحكومة الموريتانية، أطلقت اليونسكو في عام 1978 حملة دولية لحماية المدن القديمة، مع تمويل أعمال الترميم والحفاظ عليها، بما في ذلك المساجد. وفي عام 1980، أنشأ المعهد الموريتاني للبحث العلمي أرشيفًا للصور يوثق بعض جوانب الحياة في المدن القديمة. وفي عام 1993، أسست الحكومة الموريتانية المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة، بهدف مواجهة أسباب تدهورها وإحيائها من خلال برامج متكاملة للحفاظ عليها وتنميتها. كما شمل مشروع "حماية وتثمين التراث الثقافي الموريتاني"، الممول من البنك الدولي، هذه المدن ضمن نطاق عمله. حينما أقرت الحكومة الموريتانية تنظيم مهرجان مدائن التراث السنوي، كان الدافع هو الحد من العبث بالمواقع التراثية والتاريخية بتأثير التنمية غير المنضبطة والسياحة أو الإهمال. ومما لاشك فيه أن مبادرة تنظيم هذا المهرجان كانت صائبة جداً بعد ما شوهد من عبث بآثار تعود إلى آلاف السنين،بسرقتها والمتاجرة فيها تارة، وتدميرها تارة أخرى. حدث ذلك أمام أعيننا وفي مناطق مختلفة من البلاد؛ فكانت الأيادي المدمرة تمتد في كل مرة لتلغي جزءاً من ذاكرة االبلد وروحه في لحظة عبثية. يحتاج تراثنا المادي و اللامادي إلى حماية عاجلة، في مجهود وطني حثيث يسعى إلى الإبقاء على الكنوز التراثية حية، من خلال خلق روابط بيننا ومنجزاتنا الحضارية، وما ينتج عن ذلك من وعي ذاتي وجمعي ينعكس على التنمية المستدامة.
إن المحصلة التي أصبحت الحكومة والشعب والجماعات والأفراد تسعى إليها منذ بلور مهرجان مدائن التراث أهدافه، هي تحقيق وعي عام بذاكرتنا الحضارية، وتحميل الجميع مسؤولية الحفاظ عليها والاستمتاع بحياتنا المعاصرة، دون التخلي عن الجذور العميقة لهويتنا وتراث أجدادنا الذي ساعدنا على الوصول إلى ما نحن عليه. نفخر ونعتز بجهود الحكومة وخططها الرامية إلى الحفاظ على التراث وإحياء قيمه الحضارية، ضمن منظومة متكاملة يتشارك فيها الجميع من أجل استدامة التراث الثقافي بكل مكوناته. التراث المحلي تراث عالمي يخص شعوب العالم أجمع، وتقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية الحفاظ عليه. يشكلتدهور أو اختفاء أي عنصر من عناصر التراث الثقافي أو الطبيعي في دولة معينة إفقاراً ضاراً لتراث جميع دول العالم.حماية التراث على المستوى الوطني مازالت ناقصة بسبب حجم التمويلات التي تتطلبها ومحدودية الموارد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية للبلد.