«...والحقُ أن شغفي بأخبار الخلفاء قديم، وأن (تاريخ الخلفاء) للسيوطي و(نقط العروس) لابن حزم ورسالة (أسماء الخلفاء) له، من الكتب التي قرأتها قديماً ووجدت فيها لذة لا تعدلها لذة، فكنتُ بعد ذلك حريصاً على جمع أشباهها من الكتب التي أفردها أسلافنا لهذا الباب من أبواب العلم خاصةً.
وكنتُ آلمُ كلما علمت بضياع أحدها، وما أنسى لا أنسَ حسرتي على ضياع كتابين اثنين على وجه التحديد: أما أولهما فكتاب (سير الخلفاء) للطبيب المشهور أبي بكر الرازي، وأما الثاني فكتاب (التعيين) في أخبار خلفاء المشرق للمسعودي.
ثم ضرب الدّهر ضربانه، وحدثَ منذ مدة، أن كنتُ أتصفح فهارس المعهد الموريتاني للبحث العلمي، فوقع بصري فجأة على اسم كتاب (التعيين للخلفاء الماضين)، وقد أضيف إلى المسعودي، فلم أصدق أول الأمر، وخشيتُ أن يكون شُبه للمفهرسين، ووهِموا، وأما أمر (التببين) لأبي الوليد ابن زيدون منا ببعيد.
إلا أنني رأيتُ اسم سليمان بن الحسين بن مخلد مذكورا -زعموا- في أخر الكتاب المخطوط، وإني لأذكر الحسين بن مخلد في وزراء المعتمد، ويا قرب ما بين عصر المعتمد وعصر المسعودي
عجبتُ لو صحّ أن الكتاب كتاب (التعيين) للمسعودي كيف لم يُنتبه لندرته ونفاسته؟
وقوي أملي في الظفر بهذا الكتاب الذي كنت وغيري نعده من المفقودات، وزاد الأمل قوة أني كنت أعلم بوجود قطعة من كتاب (مروج الذهب) في هذه البلاد الشنقيطية، مكتوبة على ورق الغزال، وإني كنتُ قد قرأت قديماً للمرحوم عبد الله الصاوي، في مقدمة نشرته لكتاب (اخبار الزمان) المنحول، قصة رويت عن مستشرق قيل إنه وجد كتاب (أخبار الزمان) للمسعودي في بعض المكتبات الشنقيطية.
وكان من لطف المولى الكريم، جلّ شأنه، أني كنتُ أعرف المكتبة التي قيل أن (التعيين) فيها، وهي مكتبة «شيخنا بوي أحمد» وهي إحدى مكتبات تيشيت، وكنت أعلم أن بحوزة الأخ «الطالب أحمد ولد طيور الجنة» المشرف على المخطوطات بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي، صورة من المكتبة المذكورة .
فقد سبق أن أراني إياها حين كنتُ أحققُ (شرح نزهة الألباب في علم الحساب) لـ «أنبويّ عمر ولد محمد عبد الله المحجوبي الولاتي»، و (النزهة) المذكورة نظم للجزء الأول من كتاب (كشف الأسرار عن علم حروف الُغبار) للقلصادي المشهور، والشرح للناظم نفسه، فكان أن يسر الله لي تصوير المكتبة المذكورة والوقوف على كتاب (التعيين للخلفاء الماضين) فيها، في مجموع به ورقة من (حاشية على مختصر خليل)، وورقة تَبين لي -بعد الفحص والمقابلة- أنها الورقة الأخيرة من كتاب (الجامع)، أخر كُتب كِتاب (التلقين) للقاضي عبد الوهاب المالكي وأن كتاب (الجامع) برمته قد أخلت به طبعة (التقلين) التي نُشرت بتحقيق محمد ثالث سعيد الغاني، وتبين لي فيما بعد أن أكبر كتاب بالمجموعة والذي يسبق كتابنا مباشرة، وإن هو إلا قسم من كتاب (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) للكرماني، وأما كتاب (التعيين للخلفاء الماضين) وكان بغيتي، فوجدته في تسع ورقات، فيها من أول الكتاب إلى أخر خلافة الراضي بالله وقدرت الضائع منه بورقة، وإن كنت لم أستبعد العثور عليها مدسوسة في مجلد أخر، ولتمرّسي بأسلوب المسعودي، لم أكن أقرأ الكتاب حتى صحّ عندي يقيناً أنه كتاب الذي طالما تحسرت على ضياعه فلله الحمد كثيراً.
ولما أخبرت الأخ المذكور بعثوري على كتاب كان يعد من جلة المفقودات، سره ذلك، ورأيى فيه ما يدل على أن عندنا، معشر الشناقطة، ما نقدمه لغيرنا، وأوصاني بكتمان الأمر، وحثني على إخراج الكتاب محققا في أقرب مدة.
ولما درست كتاب (التعين للخلفاء الماضين) تين لي أنه وكتاب (التنبيه والإشراف) يخرجان من مشكاة واحدة، وأن المسعودي اختصر (التنبيه) في (التعيين) وحافظ على ألفاظه وعباراته كما هي، وقد أعانني هذا على قراءة كثير مما لم يبق منه إلا أثره.»
المصدر: هارون ولد عبد الفتاح، قصة اكتشاف مخطوط نادر، مجلة المخطوطات العربية