الجامعة الجديدة في حدود الحادية عشر قبل منتصف الليل في هاتين الاحداثيتين المكانية والزمانية تعرضت سيارتي لعطل فني ومن فضل الله وكرمه ساعدني شابان مؤدبان كانا في الجوار حتى اشتغلت السيارة .
نحن الموريتانيون لا نفوت فرصة للسؤال التقليدي عن القبائل والجهات وحين عرفني الشابان على نفسيهما تعريفا تقليديا تذكرت " كافا " قديما لأحمد ولد محمد خُويَ المجلسي" في مدح الأمير المجاهد سيدي أحمد بن أحمد العيده:
لاج سيدي أحمد لادرار :: امبارك شورُ حـارك
ويلا ماجاه ألا البــــار ::منُّ هو لمبـــــــاركْ .
غادر الشابان بعد تبادل للمجاملات وعدت إلى المنزل وقد أصابتني حمى الأدب ، تلك الحمى التي تصيبني حين يستفزني كاف أو طلعة أو قصيدة .
في الطريق إلى المنزل تخيلت الفرزدق وهو يطالب بملكيته الفكرية لهذا الكاف ، فهو يدعي أن المجلسي أخذ الفكرة " كافه " من قوله في يزيد بن المهلب :
أبا خالد ضاقت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد
فما قطرت بالشرق بعدك قطرة ... ولا أخضرّ بالمروين بعدك عود
وما لسرور بعد عزّك بهجة ... وما لجواد بعد جودك جود .
هذه ليست المرة الأولى التي تصيبني فيها حمى الأدب فقبل أعوام في قطار الخامسة صباحا المتجه من مراكش إلى فاس ناقشني المتنبي الذي زعم أن لا بسات الملاحف في قصيدة ولد الطالب ماهن إلا نسخة شنقيطية من لا بسات جلالب الحرير في ديناريته .
تخيلت المتنبي وهو يقول بكل بلاغته وثقته إن دلال لا بسات الملاحف في قول ولد الطالب :
" وخلفن من خلف غنج الدلال وسهره :: صريعا على أعتابها والمشارف "
إنما هو مأخوذ من دلال صوحيباته " المبديات من الدلائل غرائبا " .
سكتت في حضرة أبي الطيب الذي واصل يقول :
أن ولد الطالب حين وصف برد أسنان لابسات الملاحف بالقاتل في قوله :
" تلحفْن منها بالسواد غواربا :: حدادا على من رام برد المراشف "
كان يفكر في :
" وَبَسَمنَ عَن بَرَدٍ خَشيتُ أُذيبَهُ :: مِن حَرِّ أَنفاسي فَكُنتُ الذائِبا " .
ضحك المتنبي وهو يقول : " إن كانت نسوة ولد الطالب طيبات لدرجة أنهن يلبسن السواد حدادا على قتلاهن فإن لا بسات الحرير أيضا طيبات متعاطفات مع ضحاياهن :
حاوَلنَ تَفدِيَتي وَخِفنَ مُراقِباً :: فَوَضَعنَ أَيدِيَهُنَّ فَوقَ تَرائِبا .
توقف القطار عند محطة " Ben Guerir " فنزل المتنبي .
مرة أخرى وليلة اخرى وشاعران آخران أحدهما ينازع الآخر ففي الطريق البطيئ من داكار إلى روصو تخيلت الشريف الغرناطي وهو يقول إن الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا قد عارض نونيته بنونية صارت أشهر منها ، تخيلته يقول إن القصيدتين تشتركان في البحر والقافية و الاستعراض الثقافي مبررا ذلك بطلب بسيط يقتضي أن أستمع لقوله :
فمَا أرضى لملكك أنَّ كسرى :: وقيصرَ في مقام الحاجبينِ
وإنّ أقلَّ حظٍّ يُبتغى من :: رضاكَ يفي بملْك الحارثينِ
وأعرفُ في لحاظك ما رأتْ في :: ظبا الثقفي قاتلهُ الحسينِ .
طبعا لم أسأل الشريف الغرناطي عن كسرى وقيصر ولكني سألته عن الحارثين فأجاب هما ملكان من ملوك الغساسنة ، الحارث الأكبر والحارث الأعرج ، ثم أضاف لما وجدني محدود الثقافة بأن الثقفي المقصود هو المختار الثقفي .
فعلا بدأت المقارنة التي بلغت ذروتها لما وصلت لقول جدي الشيخ سيدي محمد في ذات المنحى :
نوضح حيث تلتبس المعاني :: دقيق الفرق بين المعنيين
وأطوارا نميل لذكر دارا :: وكسرى الفارسي وذي رعين
ونحو الستة الشعراء ننحوا :: ونحو مهلهل ومرقشين
وشعر الأعميين إذا أردنا :: وإن شئنا فشعر الأعشيين .
تمنيت أن أسأل الشيخ سيد محمد عن ذي رعين لكن حتى في الخيال سكتت احتراما له ، ثم عرفت فيما بعد أنه رجل من حمير كان مستشارا للملك الحميري عمرو الذي أستبد به الندم لما قتل أخاه حسانا وهم بقتل كل الذين أشاروا عليه بذلك فما كان من ذي رعين إلا أن دافع عن نفسه أمام الملك بقوله :
ألا مَنْ يَشْـتَـرِي سَهَـراً بنَـوْم ... سَعِـيْدٌ مَنْ يَبـيتُ قريـرَ عَيْنِ
فأمـا حِمْـيَرٌ غَدَرَتْ وَخَـانَتْ ... فَمَـعْـذِرَةُ الإِلهِ لِذِيْ رُعَـيْنِ .
في الصباح الموالي لتعطل السيارة استيقظت وقد شفيت من حمى الأدب لتصيني حمى المشاغل اليومية ، لكنني و لا أخفيكم سرا ، أفضل حمى الأدب على سائر أنواع الحميات و أحب العافية أولا .
بقلم بابه ولد يعقوب ولد أربيه
مهندس في مجال المياه والصرف الصحي
الوتساب 38422201