العنصر البشري.. حجر الزاوية في أي إصلاح للتعليم

إن الحديث عن أي إصلاح للتعليم خارج الطواقم التربوية هو نوع من العبث وقتل للوقت والجهد؛ فالمدرس هو حجر الزاوية في العملية التعليمية، وهو قوامها، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده.
وإن الناظر إلى وضعية التعليم في البلاد اليوم يرى مستوى الخلل الكبير الذي تعاني منه مصادرنا البشرية، بدءا بالمسييرين وانتهاء بالمدرسين الميدانيين، مما يوحي بغياب إرادة جادة ورؤية واضحة للإصلاح.

إن إصلاح المنظومة التعليمية الذي تحمله تسمية وزارة التربية الآن يبدأ بالمصادر البشرية، ولا شك أن إصلاح تلك المصادر يتطلب جهدا خاصا، وعلاجا سريعا، يعتمد على استراتيجيات، منها بعيدة المدى وأخرى ذات مدى قصير.
وتتركز هذه الاستراتيجيات أساسا حول:

 

انتقاء الطاقم التربوي:

تمر أولى محطات الإصلاح بطريقة اكتتاب المدرسين أساسا، ففي ظل ما تشهده مسابقاتنا من خلل كبير في الاكتتاب، يجب وضع آلية صارمة لمنع تسرب أي ممن لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة للالتحاق بمهنة التدريس؛ حيث ينبغي التفكير بشكل جدي في نوعية الرقابة والتصحيح والإشراف على الامتحانات، حتى تكون في مستوى عال من شفافية المخرجات.

 

التكوين الأولي والمستمر:

وهو المحطة الثانية، والتي تقع مسؤوليتها الأكبر أولا على عاتق مدارس التكوين؛ حيث يجب أن تكون مدارس تأهيل حقيقة، ومحطة لتصفية كل من تسرب من خلال محطة الاكتتاب الأولى، وتعيده من حيث جاء، لا أن تتحول إلى مجال للتزكية الجاهزة وبوابة لمرور من لا يمتلك من المؤهلات أن يحوز شرف الاتصاف بأجل مهنة ومهمة، وهي مهنة التعليم.
ومن جانب آخر يبرز التكوين المستمر، والذي ينبغي أن يصاحب المدرس في الميدان طول حياته المهنية، حتى يظل مطلعا على كل جديد في المجال التربوي، ومحافظا على معلوماته ومهاراته من الصدأ.

 

التأطير والتوجيه:
وذلك بإعادة الروح في دور المفتشيات الميدانية، وتمكينها من الوسائل اللازمة للمتابعة والتأطير.
ولا يخفى، للأسف، ما يعانيه هذا القطاع من ضعف في الأداء، يرجع أساسه إلى قلة الإمكانيات وضعف في الوسائل، وتغييب قيمة التفتيش التربوي وعدم إعطائه الأهمية المناسبة له.

 

-التقويم المستمر:

إن المدرس، مهما كان مستواه، يحتاج إلى تقويم وتكوين مستمرين، حتى يكون دائما على أهبة الاستعداد، ويستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ما يجعله في عملية تطوير دائمة ومواكبة لكل جديد، وذلك للتحسين من أدائه داخل القسم.

 

الرقابة والمتابعة:
إن غياب المتابعة الجادة للعمل الميداني للمدرس، وعدم إحساسه بسلطة الرقيب تجعل الكسل يدب في عمله، وخوف الإنسان من العقوبة وإحساسه بعين الرقيب يجعلانه يقوم بعمله على الوجه المطلوب، وكلما شعر بغياب تلك المراقبة ضعف أداؤه وتراخى في عمله أكثر وأكثر.
وكما قيل: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، خاصة عند ضعف الضمير المهني، الذي يوجه العامل لأداء مهني مرضي.

 

-تحسين وضعية الطواقم التربوية:
إن الوضعية المادية والمعنوية للمدرس من أهم العناصر الجاذبة والطاردة للمتميزين للقطاع.
ولاشك أن أداء المدرس وعطاءه يتغيران إيجابا وسلبا حسب وضعيته المادية والمعنوية، وما لم يوضع المدرسون في تلك البيئة المحفزة على العطاء لا يمكنهم بذل الجهد المطلوب ولا القيام بمهمتهم على أحسن وجه.
إن الشعور بالدونية في مجتمع مادي أطفأ من حماس الكثيرين، وأضعف من شغفهم لهذه المهنة، وبغياب الشغف ستظل مهنه التدريس مهنة بائسة ومهمة صعبة.

 

المكافأة والعقوبة:
إن الجهود المبذولة من طرف كثير من المجدين تسحق التثمين، وعندما يشعر المرء بغياب الإنصاف والتثمين لجهوده المبذولة، بل مساواته مع من دونه أداء ومسؤولية، يطفئ ذلك جذوة حماسه، ويشعره بعدم الرغبة في  إكمال طريقه، ما يفقده الاندفاع والإبداع، وهذا ما يتطلب وضع استراتيجية فعالة لتحفيز المجدين والإعلاء من شأنهم، فيشجعهم ذلك على الاستمرار والزيادة، ويدفع الآخرين للتنافس الإيجابي معهم، ويخلق جوا ملائما للإبداع.
وفي المقابل يجب إيصال رسالة مناسبة لكل المقصرين بأن لا أحد منهم فوق القانون، ولا هم بمأمن من العقوبة، وأن سيفها مسلط على كل من أهمل أو لم يقم بعمله على الوجه المطلوب، حتى يكون ذلك رادعا له.

 

الترقية والتعيين:
يسعى الإنسان الطموح دائما للترقية والوصول إلى نقطة أفضل مما هو عليه، لذا يجب فتح باب الترقية والتعيين وفق معايير شفافة، حتى يفتح ذلك المجال للأشخاص المجدين المناسبين للوصول إلى الأماكن المناسبة لهم، دون اللجوء إلى أساليب ممجوجة، تأباها ضمائرهم، ويفرضها الواقع الذي يعاني خللا بارزا في طريقة الترقية والتعيين.

 

تنظيم المصادر البشرية:
إن من أهم الاختلالات التي تعاني منها مصادرنا البشرية هي التحويلات غير المؤسسة، وتوزيع المدرسين وفق معايير غير سليمة، يقوم كثير منها على الوساطة والنفوذ فقط؛ ففي حين توجد مناطق شبه فارغة من المدرسين، نجدهم في مناطق أخرى مكدّسين، دون أن تسند لهم أي مهمة، أو أن يقوموا بما ينبغي لهم القيام به.
هناك المئات في الإدارات المركزية والجهوية دون وظائف، ولا يقومون بأي مهمة، ومثلهم في الوزارات الأخرى، ناهيك عن الذين يحولون إلى مؤسسات تعليمية، ليست بها حاجة إليهم، بينما في مؤسسات أخرى نقص شديد، لا يجد من يسده.

إن الإصلاح الحقيقي للتعليم هو ذلك الإصلاح الذي يركز على مصادره البشرية، من أجل الرفع من مردوديتها ميدانيا والتحسين من أدائها، وما لم يتمكن المسؤولون عن القطاع من التغلب على هذه المعضلة والقضاء على ذلك الخلل، فسنظل في دوامة العجز والتردي وتدني المخرجات وفشل منظوماتنا التعليمية الذي يتفق الجميع اليوم على أنه يكاد يكون واقعا.

 

كليم الله ولد أحمدي
 

جمعة, 16/08/2024 - 22:22