عقيد موريتاني يكتب: حماس.. التطهير الداخلي واشكالية تأمين الرهائن وعناصر الخطاب

كأي مؤسسة سياسية وعسكرية كبيرة، تعمل بجراءة وحيوية في ظروف محفوفة بالصعاب الجمة والمخاطر الهائلة، تواجه حماس وحلفاؤها- في حزب الله بصورة خاصة - جملة من التحديات الداخلية العويصة؛ لا شك أن مواجهة الاختراقات من طرف المخابرات وأجهزة الأمن المعادية تقع على رأسها، بالإضافة إلى تحد سياسي له وجهان لا تقل تداعياتهما خطورة: التعاطي مع أسرى العدو واعتماد خطاب إعلامي ملائم.

حملات "تطهير" داخلية تفرض نفسها دائما...
حسب بيانات صادرة عن المنظمتين، الفلسطينية واللبنانية، فقد بدأتا تعملان على علاج الوضع بفارق زمني بسيط: المصادر الإعلامية تفيد منذ 04 من الشهر الجاري أن حزب الله يجري حملة اعتقالات داخله تطال مسؤولين كبارا في الحزب واجهزته الأمنية. نُشر الخبر على نطاق واسع كجزء من تداعيات اغتيال فؤاد شكر من طرف إسرائيل في 30 يوليو الماضي بالضاحية الجنوبية من بيروت (انظر: " ردود الفعل العسكرية المضادة لإسرائيل، داخلية أولا وقبل كل شيء").
 وبعدالإعلان عن عمليات حزب الله الأمنية الداخلية بعشرة أيام تقريبا، نددتْ حماس بدورها، أي منذ أمس، بالممارسات "اللاأخلاقية" للمخابرات الإسرائيلية بغية تجنيد مواطنين فلسطينيين مستغلةً نقاط الضعف لديهم حسب قول المنظمة الفلسطينية. ولا يخفي البعد الدعائي في هذا التنديد، علمًا أن القاعدة الشائعة التي تعمل أجهزة المخابرات عموما على أساسها هي: الغاية تُبرر الوسيلة. وطبعا أجهزة الأمن الصهيونية لا تشذ عنها، بل على العكس: هي أكثر المخابرات عبر العالم تمسكا بها كبوصلة عمل.
وكمثال صارخ على الفضائح والوقاحة الإسرائيلية في هذه الناحية، فكلنا نتذكر كيف كانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة- تسيبي ليفني- تَبتزُّ قادة فلسطينيين كبارا في فتح حين هددتهم بنشر فيديوهات خاصة بممارستها الجنس معهم.. من بينهم قائد فريق المفاوضين الفلسطينيين آنذاك.  وقد بررت تصرفها دينيا ودنيوييا، قائلة بأنها استفتت الحاخام الأكبر في إسرائيل. فأجابها بأنه "يحق لها أن تنام مع الغرباء وتمارس الجنس معهم شرط أن يخدم ذلك إسرائيل "، وأضافت أن هذا من اجل الحصول على معلومات تفيد إسرائيل.
ولا يخامرنا أدنى شك في أن ما اعترفتْ به ليس إلا جزءا ضئيلا من الجبل الجليدي (iceberg) اللاأخلاقي، المتمثل في توظيف الزنا والفاحشة كمكونٍ رئيسي من استراتيجية وسائل تتبناها إسرائيل في مجال الاستخبارات.
كما أننا على يقين بأن نوع تسيبي ليفني كثرٌ من الصهيونيات و"المتصهينات" اللائي لا تقتصر مساحة عملهن الاستخباراتي على إغراء القادة الفلسطينيين، بل نعتقد أن عددا كبيرا ومتنوعا من الزعماء والقادة المؤثرين عالميا، سياسيين، اقتصاديين، حقوقيين، مثقفين... يقعون في مصائدهن. وكمثل هؤلاء، وعلى غرار القادة الفلسطينيين الذين وقعوا في شراك وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، فما الزعماء والقادة العرب الآخرون "إلا من غزية"... بل إننا نخشى أن يكون جزء منهم لا يُستهان به، كما ونوعا، أسهل اجتذابا على مصائد "الحسناوات" الصهيونيات. هداهم الله، وعفا عنا وعنهم.
وهذا المستوى من "التميز" الاستخباراتي الفائق، الذي لا يتورع صاحبه من أي شيء يوصله إلى غايته، هو بلا شك ما أرادت حماس فضحه حينما نددت بمحاولات العدو الإسرائيلي الخبيثة لاختراقها في الفترة الاخيرة.   
ومن المؤكد على صعيد آخر متصلٍ، أن حماس، إضافةً إلى فضح ممارسات عدوها اللاأخلاقية والتحذير منها، اتخذت إجراءات عملية حازمة لتصفية العملاء المندسين في صفوفها.
وكما هو معهود في حملات " التطهير" الداخلية، الأمنية والعسكرية، فمن الوارد أن تكون لتصفية العملاء كلفة بشرية تدفعها المنظمتان رغمًا عنهما. فعمليات كف ضرر الجواسيس والوقاية مستقبلا منه لا تقتصر على عزلهم وفقدانهم من طرف الهيئات المنتمين لها فحسب، بل تقتضي بالإضافة إلى ذلك تحييدهم عبر استخدام الطرق والأساليب المواتية لكل حالة. وقد تكون راديكالية أو دون ذلك: اعتقال لفترات محدودة، سجن مؤبد، تصفية جسدية...
ليست طبعا عمليات "التطهير الأمني"، الداخلية الحالية، هي الأولى من نوعها في حماس ولا في حزب الله، ولن تكون الأخيرة. فأجهزة مكافحة التجسس (contre-espionnage) لدى المنظمتين، ولدى غيرهما، تعمل دوما ودون انقطاع، لكن تبعا لوتيرات تعلو كثيرا أو قليلا حسب ما تتيحه المصادر المتوفرة من خيارات ممكنة التطبيق، ووفقا لمتطلبات الظروف التكتيكية والإستراتيجية وتقلباتها.

التعاطي مع الأسرى والخطاب الإعلامي
حتى قبل يوم أمس، أظهرتْ حماس تعاطيا جيدا مع الرهائن الإسرائيليين وغير الإسرائيليين، الذين تحتجزهم، من خلال ما نقله عنها منْ تم تحريرهم وحسب المظاهر البدنية والمعنوية لهؤلاء. وهذا السلوك على النقيض تماما من خبر جاء على لسان الناطق باسم كتائب القسام منذ يومين.
لقد أعلن أبو عبيدة عن قتل رهينة وإصابة اثنتين أُخريْين بجروح خطيرة على أثر إطلاق نار متعمد من طرف أحد المجندين "الحمساويين" المكلفين بحراستهم. وأضاف أن تصرف هذا الأخير جاء كردة فعل انتقامية من القوات الإسرائيلية بسبب قتلها ابنيْه خلال عمليات قصف لهدف أو اهداف من بينها محل تواجد الطفلين.
وفعلا إسرائيل تقوم بحرب إبادة لا غبار عليها تستهدف الفلسطينيين جميعا: المقاتلين والمدنيين، النساء والرجال، الأطفال والبالغين... إلا أن جرائم الحرب التي ترتكبها لا تبرر إطلاقا ردود فعل إجرامية من طرف الضحايا ولا ذويهم.
ومن الوارد جدا أن يكون الجندي "الحمساوي"، كما قال ابو عبيدة، تصرف بدافع غضبٍ وحزنٍ شديديْن. بسبب استشهاد طفليه، لم يستطع مقاومة ضغطهما عليه. مما أفقده السيطرة على اعصابه. وهذا شرحٌ واردٌ، لكنه لا يبرئه أطلاقا. الرهائن محميون مهما كانوا، وهو مسؤول عن تأمينهم. وينبغي لقادته وللمنظمة أن يتصرفوا بحزم وشجاعة لمواجهة الموقف.
فحسنًا فعلوا، حين بادروا بالإفصاح عن الحدث ولم يحاولوا إخفاءه أو التستر عليه، بل وعدوا بأجراء تحقيق حول حيثياته وتعهدوا بنشر نتائجه. وحسنا فعلوا أيضا، لمَّا ربطوا سياسيا ما جرى بجرائم إسرائيل. لكن لا ينبغي السكوت على نصيب الجندي المعني من المسؤولية ولا على ما يترتب على ذلك من مسؤوليات تتعلق بحماس، مثل: الصرامة في اختيار الجنود المكلفين بحراسة الأسرى والسجناء، السهر على تكوينهم الجيد قانونيا وعسكريا، التطبيق العادل للعقوبات التأديبية والقضائية في حق المخطئين والمذنبين منهم...

ونُذكِّر بهذه المبادئ ونحث عليها، ونحن نعلم أنه من الصعب جدا  التقيد بها كما ينبغي على فصائل مقاومة مستضعَفة تتصدى لحرب إبادة، مرتبكوها مدججون باحدث الأسلحة وأشدها فتكا، ويستخدمونها دون أن  يأبهوا بأي وازع اخلاقي. 
 وربما يُفسِّر هذا السلوك الإجرامي لإسرائيل، وموجاتُ الاستنكار العالمية المتزايدة التي يثيرها، كونَها لم تول الجانب الاخلاقي المحيِّر من الخبر المتعلق بقتل رهينتها اهتماما كبيرا، بل غضَّتْ عنه الطرف تماما. وكأنها لا تبالي بالنواحي الأخلاقية في الحرب، حتى عندما يكون العيب في جانب عدوها !   بل ركزت على التشكيك في صحة الخبر.
وهنا، كان يجب على حماس التحلي بالدقة والصرامة في صياغته بدرجة لا تترك فرصة للتشكيك في مصداقية المصدر. فمثلا الصورة التي نشرتها حماس اليوم، كَذَّبتْ إسرائيلُ كونَها للرهينة المقتولة، مضيفةً أنها لرهينة أخرى قُتلت في يناير الماضي، أي قبل الحدث الحالي بزمن غير قصير: 07 أو 08 شهور.
هل وقع غلطٌ في اختيار الصورة المناسبة، ينم عن تقصير أو تَسرُّعٍ من طرف من نشروها، علما أنه من السهل التأكد من هوية صاحب الصورة المنشورة؟
أيًا كان الجواب، فما قيل حولها وحول الحدث المذكور والمسؤوَليات المترتبة عنه، يدفع بنا إلى التذكير بأهمية عناصر الخطاب الإعلامي واختيارها، خاصة في ظروف الأزمات والحرب، بوصفها سلاحا ينبغي صقلُه وتكييفه مع الظرف، تماما بقدر ما نعتني بنوع وجهوزية الدبابة، أو الصاروخ، أو المدفع... تبعا للهدف العسكري الذي نريد علاجه.

 

البخاري محمد مؤمل

عقيد متقاعد

جمعة, 16/08/2024 - 13:25