تتصادف ذكرى ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبدالناصر هذه
السنة مع حالة ثورية لافتة في إفريقيا تعيشها بالأساس شعوب ما أصبح يعرف بتحالف دول الساحل ؛ ونظرا للإطار الجيو استراتيجي المتطابق للحالتين والمتمثل في وضعية تحاول فيها دول عظمى أن ترث او تنتزع مناطق نفوذ دول أخرى فقدت أدوات ومقومات الاحتفاظ بهذه االمناطق والتاثير عليها.
إن التوقف اليوم في هذه الذكرى وفي هذه الوضعية الشاخصة امام العين مع دلالات ما تبقى من تجربة جمال عبدالناصر وهو محاصر؛ وتجربته وهو يقترب من الاتحاد السوفياتي ويشتري منه السلاح ويقترب كذلك من دول آسيا وبعض دول افريقيا ويعقد معها مؤتمر باندونغ سنة 1955 ؛وينشيء معها كتلة عدم الانحياز
تحركه هواجس الأمن وحوافز التنمية ومحاولات البقاء والنجاة في محيط متربص ومعادي تماما؛ هذا كله مما يبرر ويؤكد أهمية استيعاب وفهم التجارب الانسانية وان اختلفت البلدان والظروف.. وإذن فإن استعادة هذه التجربة التاريخية في مصر أو جانب من هذه التجربة في هذا المقال في إطار نقاش تحولات الساحل وفي إطار تجربة عظيمة تجري الآن بشكل خاص في دولة بوركينا فاسو التي تعيش حالة تعميد تاريخي.. ومن المعلوم أن هذا بلد متواضع في موارده وفي ظروفه ولكنه أنجب المناضل العظيم توماس سانكارا الذي قال ذات يوم في أحد المؤتمرات الدولية "اذا قررت بوركينا فاسو منفردة ان تتوقف عن دفع ديونها فإنني لن أكون موجودا بينكم العام القادم في هذا المؤتمر" .وهو ما حدى بالرئيس الفرنسي ميتران أن يقول بان اي زعيم يسمع خطابات سانكارا حري به أن لا ينام مرتاح الضمير هاديء البال..
ولكن المفاجاة اليوم والتي تعيدنا من جديد الى تذكر هذا البلد ومتابعة شأنه من جديد هو أنه وبعد سبع وثلاثين سنة فقط من اغتيال سانكارا هاهي بوركينا فاسو تقدم قائدا شابا آخر له نفس سمات ومنهح بطلها السابق إنه الرائد ابراهيما اتراورى..
فهل يمكن القول إن هذه حالة ميلاد جديدة ؟ ومالذي يعنيه هذا الطرق المتكرر على باب التاريخ ؟
إن تجربة جمال عبدالناصر الأمنية في مصر او لمصر في الخمسينات والستينات درس مهم لهذا القائد الإفريقي المتميز السائر على خطى سانكارا وباتريس لومامبا والذي يواجه الآن صعوبات جمة ترتبط في جوهرها بالسلامة الوطنية لبلده وهو يواجه تحديات الجماعات الدينية المتطرفة المتوثبة وتحديات المحيط المعادي وتحديات القوى الدولية الغاضبة ..
لا جدال في أن رؤية عبد الناصر الأمنية هي في المقام الاول رؤية لأمن بلده مصر..ولكنها رؤية استقاها من قراءاته وانضباطه وتنظيمه الذهني ومن انتمائه لذاته ووطنه وفهمه لعصره وزمانه؛ وقد كان استقلال مصر وتأمينها هاجسه الحقيقي حتى إن رسالة تخرجه من كلية الأركان الحربية كانت دراسة حول خطة القائد اللنبي للدفاع عن مصر في الحرب العالمية الاولى ؛ والتي بناها على اساس ان الأمن القومي لمصر يبدا من خارج حدودها؛ وهي قناعة رسختها التجربة في ميدان القتال وعايشها تطبيقيا وهو يحارب في فلسطين سنة 1948دفاعا عن أمن بلده ..وربما لا يعلم كثير من الشباب في غرب افريقيا بسبب حاجز اللغة أن هذا الرجل الذي يسمعون باسمه وربما ببعض مواقفه أنه خاض ثلاث حروب رئيسية هزم في اثنتين إحداهما و هو قائد كتيبة في جبهة القتال والاخرى هو رئيس آمر ..ولكنه لم يستسلم و مات سنة 1970 وهو يحضر للحرب الرابعة ..لأنه كان يؤمن بنظريته ورؤيته الوطنية للأمن وهي رؤية صيغت على هديها تحالفات وقرارات وابرمت في سبيل تحقيقها صفقات؛ فكانت صفقة السلاح الشهيرة مع الاتحاد السوفياتي من خلال اتشيكوسلوفاكيا سنة1955..و لا بد من التنبيه مع ذلك أنه لم يكن مندفعا بلا فرامل في الدوران في فلك الاتحاد السوفياتي.. تحرك في ظلهم وليس تحت مظلتهم؛ اعطاهم فرصة الوصول او الاقتراب من مناطق النفوذ الحمراء للغرب؛ ولكنه اشترط عدم الاقتراب من نسيج بلده وبناه الداخلية ؛ مثلا في الجانب العسكري اشترط ان لا يرتدي الخبراء العسكريون الروس بدلاتهم العسكرية في الثكنات المصرية؛ ان لا يقودوا وحدات مصرية وان لا يشاركوا برجالهم في معارك الجيش المصري لأنه يدرك ان الامبراطوريات لا تحرر الشعوب لتعتقها لوجه الله ؛ اشترط كذلك ان لا يتدخلوا في الصراعات الحزبية والحياة السياسية؛ اشترط ان لا يتدخلوا في الثقافة والتقاليد والقيم المحلية.
ان كل متابع للشأن البوركينابي الآن يدرك ان الزعيم البوركينابي ابراهيم تراروري وهو يعقد صفقات تأمين بلده يسير قريبا من هذا الاتجاه؛ لأنه ينتمي لوطنه وينتمي ايضا لهمته قبل همومه الشخصية فهو ليس فقط ضابط جيش خاض تجربة السلاح وتجربة القتال في الميدان ؛ بل انه مثقف دارس وطالب جامعي خريج جيولوحيا وهو قبل وبعد ذلك كله ينتمي لذاته ولسواد شعبه المطحون ؛ ولا يزال رغم انه رئيس يذكر أمام الاعلام في بعض خرجاته كيف كان يركض وهو صبي عندما ينتهي الدرس باتجاه امه التي كانت تبيع 'البنيي" امام مدرسته ليساعدها في البيع والتأمين حين يتحلق من حولها الاطفال للشراء.. إنه يفعل الآن نفس الشيء تقريبا؛ وفي ظني أن هذه هي خلفية الانحياز والوفاء للذات وللفقراء وللامن ايضا..