لا تشبه الممارسة السياسية في وطننا، أي ممارسة سياسية في أي دولة في العالم. فهي تفتقر إلى مرجعية فكرية تستند إليها، وتفتقر أحزابنا، دون استثناء، إلى برامج سياسية تطمح إلى تنفيذها حال استلامها السلطة. الأحزاب مجرد تراخيص لممارسة نشاط مدر للدخل، مثل ترخيص اصطياد الأخطبوط، والتنقيب عن المعادن الثمينة، واستيراد الأدوية... لذلك لا يختلف السياسيون غالبا عن الصيادين، والمنقبين، والتيفايه؛ فالكل صاحب مهنة يرغب من خلالها تحقيق ربح شخصي سريع... والانتخابات ليست سوى فرصة لتحقيق أرباح وفيرة وسريعة، فإذا لم تتحقق يتم اختطاف السلم الوطني، والسعي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، لإرغام الفائز في الانتخابات على شراء هدوء مثيري الشغب.
لقد قال الشعب كلمته، في انتخابات تمت تحت مراقبة وطنية ودولية، ولم يستطع أحد تقديم أدنى دليل على تزوير مزعوم. حتى مثيرو الشغب لم يتقدموا بطعن لدى المجلس الدستوري يشكك في نزاهة النتائج المؤقتة التي نشرتها اللجنة المستقلة، لكنهم بدل ذلك طالبوا بحوار وطني... يعيدنا ذلك إلى خمس سنوات خلت، حين فاز الرئيس بمأموريته الأولى، هبت المعارضة، وبعض أحزاب الأغلبية مطالبين بحوار وطني شامل لا يقصى منه أحد، وتطرح فيه جميع القضايا الوطنية الكبرى. وانطلقت الساعة الرملية للوقت المهدور. دب الخلاف الأول حول المصطلحات؛ حوار، أم تشاور؟ وسال الحبر، وتسلل الزمن ليتم الاتفاق أخيرا على كلمة "حوار". ثم دب خلاف جديد حول من يرأس طاولة الحوار؟ رفضت المعارضة، وأنصارها من الموالاة، رئاسة حزب الانصاف صاحب الأغلبية في البرلمان، والمجالس الجهوية والمحلية، وحزب الرئيس المنتخب.. لأنه طرف. وبذلك ألغيت نتائج تصويت الموريتانيين الذين منحوا ثقتهم لحزب الانصاف لإدارة شأنهم العام، ليصبح مساويا لأحزاب تحت التأسيس، وأخرى لم تمثل في البرلمان منذ الترخيص لها. ثم دب خلاف ثالث حول تشكيل اللجان، وصلاحياتها، ونفقاتها، ومدة الحوار، وإلزام الحكومة بتنفيذ مقرراته. ومن خلاف، يفضي إلى اتفاق، ينتج عنه خلاف جديد مات "الحوار" فاحتاج السياسيون إلى "بوْ"، لإدرار الخزينة العامة، جسدته بامتياز جائحة كورونا بلجانها ونفقاتها، ومغاسلها التي لم تستخدم، لا قبل "الأكل" ولا بعده...
سيادة الرئيس..
"لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين". الذين أضاعوا النصف الأول من المأمورية الأولى بالمماحكات الفارغة هم الذين ينادون اليوم بالحوار؛ منهم المعارض الصردح، والموالي الصحصح، وهملٌ، كلما رأوا نوءً سياسيا قالوا "هذا عارض ممطرنا". لا تضيع مأموريتك الأخيرة في محاولة إيجاد حلول لقضايا يتعيش منها سياسيون، وحقوقيون، ولن يسمحوا بحلها لأن حلها يعني موتهم السياسي، وإفلاسهم الحقوقي. سيخرجونها لخلفك، كما أخرجوها لسلفك، وسيظل الإرث الإنساني محل شحناء بين الورثة بسبب الاتفاقات والتعويضات. وسيظهر عند كل استحقاق انتخابي، أو احتفال بعيد، ورثة جدد يطالبون باتفاقات جديدة، وتعويضات مفيدة.. وستظل "آثار" العبودية محل عناية فائقة من الحقوقيين السياسيين لما تدر من فوائد مثل كل الأنتيكات التي تحظى بدعاية تسويقية محترفة.
سيادة الرئيس..
هذه مأمورية للوطن. لست في حاجة لأصوات كبار الناخبين، ولا حشود القبليين الجهويين، ولا مبادرات الشرائحيين؛ إذ لست مرشحا لأي منصب انتخابي، وأغلبيتك تمكنك من تنفيذ برنامجك دون حاجة إلى سند من خارجها. تمثل المأمورية الأخيرة، فخامة الرئيس، فرصة لترك بصمة في التاريخ، لتنفيذ مشاريع عملاقة لصالح الشعب، واتخاذ قرارات ترسم مستقبله لأجيال قادمة. ضع السياسيين في الثلاجة، أغلبهم بلغ درجة التجمد منذ 2019، ونفذ مشروعك الذي انتخبك الموريتانيون أملا في تنفيذه...
فِ، تذكيرا لا أمرا، للشباب بما وعدتهم، وأوله الخدمة الوطنية، فهي التي تبني الرجال، وتربيهم على حب الوطن... ودشن محاربة الفساد، التي أكدت عليها في الحملة الانتخابية، بتجاهل الدعوات للحوار فهي مدخل للفساد، وفرصة للمفسدين.