كتلة غرامشي التاريخية..

في الفكر، كما في الحياة اليومية، لا ينبغي استعارة أدوات دون توفير شروط استخدامها، إلا إذا كانت "الاستعارة" بالمفهوم البلاغي، لمجرد بهرجة النص بمحسنات "فكرية" للعرض فقط. صحيح أن المناسبة التي استعير فيها مفهوم "الكتلة التاريخية" مناسبة استعراضية أظهر فيها "جمعٌ" شعبيته في حدود دار الشباب. غير أن الزج بالفكر في تظاهرة سياسية استعراضية خطابية قد لا يبدو منسجما مع مساطر الفكر السياسي، ولا مع الممارسة السياسية.

فالمفهوم الفكري يوظف ضمن منظومة فكرية تستوعبه وتثريه. ذلك ما حاوله محمد عابد الجابري، الذي "توسل به جمع" للوصول إلى غرامشي. وكما في غالب حالات التوسل، يظل الوصول مشكوكا فيه. فالفرق شاسع بين كتلة غرامشي التاريخية و"جمعٌ" من السياسيين من مشارب شتى. " يعود مفهوم ''الكتلة التاريخية'' إلى المفكر الإيطالي الماركسي، أنطونيو غرامشي، الذي وظفه من أجل تخطّي حالة الانسداد العام التي كانت تشهدها إيطاليا ما بين الحربين العالميتين، وذلك بالدعوة إلى بناء تحالف اجتماعي واسع يضم قوى مختلفة، تلتقي مصالحها في التغيير الاجتماعي." محمد بنيس.
       
 تلكم هي أولى مظاهر سوء التوظيف. ولد المفهوم "من أجل تخطي حالة الانسداد العام..."، ونحن بفضل الله في حالة انفراج لم يسبق لها مثيل. فقد اقتنعت معارضتنا أن التناوب السلمي على السلطة غير متاح على المدى المنظور، فاغتنمت التهدئة السياسية للتسلل إلى الأغلبية، وليس في ذلك معرة بحكم واقعنا السياسي. فلم تعرف هذه البلاد تنظيرا سياسيا يقترح حلولا لقضايانا الكبرى. فقد نشأت السياسة عندنا ممارسة محلية بتأطير فكري بعيد الصلة بواقعنا الاجتماعي والاقتصادي. كان الفكر الماركسي، في تشويهه القومي، واجتهاده الصيني، الأساس الذي انبنت عليه الحركات السرية التي نشطت ضد سلطة تحاول إقامة دولة على حيز جغرافي دون التساؤل كثيرا عن هوية تلك الدولة. كانت الجمهورية الأولى جمهورية الجغرافيا فقط؛ بلا تاريخ ولا هوية، لذلك سيطر هاجس رسم الحدود "من اذراع إلى أزواد، ومن أزواد إلى شواطئ نهر السنغال" على الخطاب السياسي. وترجم هذا الهوس بالجغرافيا في القفزة في المجهول لإضافة صحراء إلى صحراء.
         

صحيح أن حزب الشعب كان يصنف، إذ لا بد من تصنيف، حزبا ذا ميول اشتراكية في بلد ليست فيه وسائل إنتاج، ولا طبقة عاملة. لم تهتم الجمهورية الأولى بالتأصيل الأيديولوجي الذي كانت تحارب بعض تجلياته، ولم يكن لديها الكادر القادر عليه، ولا راغبة في وجود مثل هذا الكادر. لذلك تم التخلص من "تروتسكي" النظام؛ محمد ولد الشيخ، وأحمد باب ولد أحمد مسكة، وبياكي ولد عابدين، ليسيطر جناح أصحاب "معدلات الذكاء المتوسطة"، ولم يكن أولئك مؤهلين لإنتاج فكر. لذلك مثل تحالفهم مع "كادحي مريم"، بعد تمنع، تنازلا من هؤلاء عن فكرهم اليساري ليصبحوا جزء من "تسيير المرافق العامة للدولة". ومن تاريخه ظلت كل معارضة ترنو إلى التسيير، مطالبة بحكومة وحدة وطنية في كل حالة عادية خسرت فيها الانتخابات.
       

 يعود هذا الولع بالتسيير لدى السياسيين، إلى تنظيم جهاز الدولة الذي اعتمدته الجمهورية الأولى، وهو تنظيم يجعل الموظف تحت رحمة حزب الشعب المسيطر على مفاصل الدولة. فمنظومة المرتبات تفرض على الموظف الانخراط في النشاط السياسي؛ فالمرتب الأساس الذي يستحقه الموظف هزيل، لا يؤمن حياة كريمة لصاحبه، لكن الترقيات التي لا تخضع لأية معايير مهنية تجلب له علاوات تحسن وضعه المادي بشكل ملحوظ. يفقد الموظف هذه العلاوات في حالة إقالته، وفي حالة تقاعده، إذ لا تشملها استقطاعات الضمان الاجتماعي. نتج عن ذلك أن الموظف، مهما كانت رتبته، يسيطر عليه الخوف من فقدان امتيازاته، فلا يتجرأ على أي مبادرة، إلا إذا كانت سياسية. وهو ما يصيب الإدارة بالجمود، ويتسابق الجميع لإرضاء صاحب القرار حفاظا على الامتيازات. ولا يخفى ما في ذلك من سوء إدارة يؤذن بخراب جهاز الدولة.
           

أما نظام المعاشات عندنا فهو فريد من نوعه في العالم. حين يتقاعد الموظف تدفع له الدولة سعر الحنوط، وثمن الكفن، وتترحم عليه. فاقتطاعات الضمان تتم فقط من الراتب الأساس، أما العلاوات فلا تخضع لها. ينتج عن ذلك ضمان اجتماعي هزيل لا يمكن تصوره: كم يتقاضى الجندي، والشرطي، والممرض، والمعلم، والأستاذ الجامعي، والأخصائي، والموظف السامي... عند التقاعد؟ مبالغ لا تصمد أسبوعا واحدا، وكانت تدفع كل ثلاثة أشهر... ولعل وضعية المعاشات هي أكبر سبب لانتشار الفساد المالي. فأغلب الموريتانيين يتأخرون في الزواج، فلا تكاد تجد متقاعدا إلا لديه أطفال صغار يحتاجون رسوما دراسية، ومتطلبات أخرى لا يفي المعاش بعشرها، ولا بد من تأمينها. لذلك يسعى الموظف إلى شراء بيت في البلدان المجاورة يستخدمه دار عجزة لعلاج أمراضه المزمنة، ويصرف من ريعه على عياله...
     

 صحيح أن النظام الحالي يحاول تحسين نظام المعاشات، لكن الأمر لا يتطلب فلسفة خاصة؛ فلننظر إلى جوارنا كيف ينظم أجوره، ومعاشاته، ونقيس عليها. هذا التنظيم هو الذي سمح بنجاح ممارسات ديمقراطية، ووجود معارضة سياسية لا ترنو إلى التسيير، إلا إذا كان تسييرها حين تستلم السلطة. وهو الذي سمح بوجود نخبة فكرية لا تنشغل بالممارسة السياسية، وإنما تنظر لها.
       

من كل ما سبق يتضح أن استدعاء فكر غرامشي بمناسبة مبادرة سياسية لسياسيين مخضرمين، كان ينبغي أن ينعموا بتقاعد مريح، فيه الكثير من التكلف. فلنفكر في الإصلاح بمناسبة المأمورية الجديدة؛ إصلاح جذري يعيد النظر في كل الاختلالات، ويمتلك شجاعة الحسم.. وليرقد غرامشي بسلام.

 

كتلة غرامشي التاريخية..

في الفكر، كما في الحياة اليومية، لا ينبغي استعارة أدوات دون توفير شروط استخدامها، إلا إذا كانت "الاستعارة" بالمفهوم البلاغي، لمجرد بهرجة النص بمحسنات "فكرية" للعرض فقط. صحيح أن المناسبة التي استعير فيها مفهوم "الكتلة التاريخية" مناسبة استعراضية أظهر فيها "جمعٌ" شعبيته في حدود دار الشباب. غير أن الزج بالفكر في تظاهرة سياسية استعراضية خطابية قد لا يبدو منسجما مع مساطر الفكر السياسي، ولا مع الممارسة السياسية. فالمفهوم الفكري يوظف ضمن منظومة فكرية تستوعبه وتثريه.  ذلك ما حاوله محمد عابد الجابري، الذي "توسل به جمع" للوصول إلى غرامشي. وكما في غالب حالات التوسل، يظل الوصول مشكوكا فيه. فالفرق شاسع بين كتلة غرامشي التاريخية و"جمعٌ" من السياسيين من مشارب شتى. " يعود مفهوم ''الكتلة التاريخية'' إلى المفكر الإيطالي الماركسي، أنطونيو غرامشي، الذي وظفه من أجل تخطّي حالة الانسداد العام التي كانت تشهدها إيطاليا ما بين الحربين العالميتين، وذلك بالدعوة إلى بناء تحالف اجتماعي واسع يضم قوى مختلفة، تلتقي مصالحها في التغيير الاجتماعي." محمد بنيس.
       

 تلكم هي أولى مظاهر سوء التوظيف. ولد المفهوم "من أجل تخطي حالة الانسداد العام..."، ونحن بفضل الله في حالة انفراج لم يسبق لها مثيل. فقد اقتنعت معارضتنا أن التناوب السلمي على السلطة غير متاح على المدى المنظور، فاغتنمت التهدئة السياسية للتسلل إلى الأغلبية، وليس في ذلك معرة بحكم واقعنا السياسي. فلم تعرف هذه البلاد تنظيرا سياسيا يقترح حلولا لقضايانا الكبرى. فقد نشأت السياسة عندنا ممارسة محلية بتأطير فكري بعيد الصلة بواقعنا الاجتماعي والاقتصادي. كان الفكر الماركسي، في تشويهه القومي، واجتهاده الصيني، الأساس الذي انبنت عليه الحركات السرية التي نشطت ضد سلطة تحاول إقامة دولة على حيز جغرافي دون التساؤل كثيرا عن هوية تلك الدولة. كانت الجمهورية الأولى جمهورية الجغرافيا فقط؛ بلا تاريخ ولا هوية، لذلك سيطر هاجس رسم الحدود "من اذراع إلى أزواد، ومن أزواد إلى شواطئ نهر السنغال" على الخطاب السياسي. وترجم هذا الهوس بالجغرافيا في القفزة في المجهول لإضافة صحراء إلى صحراء.
         

صحيح أن حزب الشعب كان يصنف، إذ لا بد من تصنيف، حزبا ذا ميول اشتراكية في بلد ليست فيه وسائل إنتاج، ولا طبقة عاملة. لم تهتم الجمهورية الأولى بالتأصيل الأيديولوجي الذي كانت تحارب بعض تجلياته، ولم يكن لديها الكادر القادر عليه، ولا راغبة في وجود مثل هذا الكادر. لذلك تم التخلص من "تروتسكي" النظام؛ محمد ولد الشيخ، وأحمد باب ولد أحمد مسكة، وبياكي ولد عابدين، ليسيطر جناح أصحاب "معدلات الذكاء المتوسطة"، ولم يكن أولئك مؤهلين لإنتاج فكر. لذلك مثل تحالفهم مع "كادحي مريم"، بعد تمنع، تنازلا من هؤلاء عن فكرهم اليساري ليصبحوا جزء من "تسيير المرافق العامة للدولة". ومن تاريخه ظلت كل معارضة ترنو إلى التسيير، مطالبة بحكومة وحدة وطنية في كل حالة عادية خسرت فيها الانتخابات.
       

 يعود هذا الولع بالتسيير لدى السياسيين، إلى تنظيم جهاز الدولة الذي اعتمدته الجمهورية الأولى، وهو تنظيم يجعل الموظف تحت رحمة حزب الشعب المسيطر على مفاصل الدولة. فمنظومة المرتبات تفرض على الموظف الانخراط في النشاط السياسي؛ فالمرتب الأساس الذي يستحقه الموظف هزيل، لا يؤمن حياة كريمة لصاحبه، لكن الترقيات التي لا تخضع لأية معايير مهنية تجلب له علاوات تحسن وضعه المادي بشكل ملحوظ. يفقد الموظف هذه العلاوات في حالة إقالته، وفي حالة تقاعده، إذ لا تشملها استقطاعات الضمان الاجتماعي. نتج عن ذلك أن الموظف، مهما كانت رتبته، يسيطر عليه الخوف من فقدان امتيازاته، فلا يتجرأ على أي مبادرة، إلا إذا كانت سياسية. وهو ما يصيب الإدارة بالجمود، ويتسابق الجميع لإرضاء صاحب القرار حفاظا على الامتيازات. ولا يخفى ما في ذلك من سوء إدارة يؤذن بخراب جهاز الدولة.
         

 أما نظام المعاشات عندنا فهو فريد من نوعه في العالم. حين يتقاعد الموظف تدفع له الدولة سعر الحنوط، وثمن الكفن، وتترحم عليه. فاقتطاعات الضمان تتم فقط من الراتب الأساس، أما العلاوات فلا تخضع لها. ينتج عن ذلك ضمان اجتماعي هزيل لا يمكن تصوره: كم يتقاضى الجندي، والشرطي، والممرض، والمعلم، والأستاذ الجامعي، والأخصائي، والموظف السامي... عند التقاعد؟ مبالغ لا تصمد أسبوعا واحدا، وكانت تدفع كل ثلاثة أشهر... ولعل وضعية المعاشات هي أكبر سبب لانتشار الفساد المالي. فأغلب الموريتانيين يتأخرون في الزواج، فلا تكاد تجد متقاعدا إلا لديه أطفال صغار يحتاجون رسوما دراسية، ومتطلبات أخرى لا يفي المعاش بعشرها، ولا بد من تأمينها. لذلك يسعى الموظف إلى شراء بيت في البلدان المجاورة يستخدمه دار عجزة لعلاج أمراضه المزمنة، ويصرف من ريعه على عياله...
       صحيح أن النظام الحالي يحاول تحسين نظام المعاشات، لكن الأمر لا يتطلب فلسفة خاصة؛ فلننظر إلى جوارنا كيف ينظم أجوره، ومعاشاته، ونقيس عليها. هذا التنظيم هو الذي سمح بنجاح ممارسات ديمقراطية، ووجود معارضة سياسية لا ترنو إلى التسيير، إلا إذا كان تسييرها حين تستلم السلطة. وهو الذي سمح بوجود نخبة فكرية لا تنشغل بالممارسة السياسية، وإنما تنظر لها.
     

  من كل ما سبق يتضح أن استدعاء فكر غرامشي بمناسبة مبادرة سياسية لسياسيين مخضرمين، كان ينبغي أن ينعموا بتقاعد مريح، فيه الكثير من التكلف. فلنفكر في الإصلاح بمناسبة المأمورية الجديدة؛ إصلاح جذري يعيد النظر في كل الاختلالات، ويمتلك شجاعة الحسم.. وليرقد غرامشي بسلام.
كتلة غرامشي التاريخية..

اثنين, 27/05/2024 - 16:27