لم يأتِ اعتمادُ نظامِ الحزب الواحد الحاكم خلال عقدي الستينيات والسبعينات قراراً شخصياً من المختار ولد داداه، كما لو أنه استطاع أن يفرضه على الجميع رغماً عنهم وعلى النقيض من تطلعاتهم إلى الديمقراطية والتعددية الحزبية والتداول السلمي على السلطة في حينه، كما يعتقد اليوم بعضُ شبابنا غير الملمين بكثير من الحيثيات والملابسات الخاصة بتلك المرحلة. بل الواقع أن تبني نظام الحزب الواحد واعتمادُه أساساً للحياة السياسية، جاء محصلةً لما أُطلق عليه في حينه حوار «الطاولة المستديرة» الذي استمر لعدة أشهر وعلى مدى أربع جولاتٍ من الحوار تَفاوضَ خلالها «حزب التجمع الموريتاني» الحاكم (الأغلبية) مع أحزاب المعارضة الثلاثة القائمة في ذلك الوقت، وهي «حزب النهضة» و«حركة الشبيبة الموريتانية» و«الاتحاد الموريتاني». وقد ارتأت هذه الأحزاب معاً أن نظام التعددية الحزبية لا تتوفر شروطه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلادنا الناشئة، وأنه لا يناسب مجتمعاً بدوياً قبلياً تسوده الأميةُ والفقرُ والقبليّةُ ونمطُ الترحال البدوي ولا تتجاوز نسبة سكان المدن فيه 3 في المئة.. واتفقت تلك الأحزاب على الانصهار كلِّها في حزب جديد اسمه «حزب الشعب الموريتاني» كحزب حاكم وحيد، على غرار باقي الدول الأخرى المستقلة حديثاً، بغيةَ ترسيخ الاندماج الوطني والعملَ داخلياً وخارجياً على تكريس «الدولة» الجديدة. ولم يطالب أحدٌ في ذلك الوقت لا بالتعددية السياسية ولا بالتناوب السلمي على السلطة، وربما يعود ذلك لثلاثة أسباب: أولها معرفتهم بأن بناء الدولة، تاريخياً ومنطقياً، يسبق بالضرورة بناءَ التعددية الحزبية، خاصةَ أنه لا عهد لهذه الربوع بنظام الدولة المركزية وليس لدى ساكنتها تقاليدٌ في مجال «الدولنة». وثانيها أن نظام الحزب الواحد هو النظام السائد في الدول المستقلة حديثاً، بل في العالم كله آنذاك باستثناء أوروبا الغربية (دون البرتغال وإسبانيا) والولايات المتحدة، وأن البلد العربي الوحيد الذي كان يتمتع بتعددية حزبية في حينه هو لبنان الذي أسست فرنسا ديمقراطيتَه على أساس طائفي، أما في أفريقيا فكان السنغال هو الاستثناء «الديمقراطي» الوحيد تقريباً، رغم أن تعدديته كانت شكلية للغاية وكان سينغور يمارس حكمَ الرجل الواحد وكان نظامه ينكّل بمعارضيه ويزج بمئات النشطاء السياسيين والنقابيين والطلابيين في المعتقلات. وثالثها أن التعددية الحزبية لم تكن مطلباً لدى أي من معارضي الرئيس المختار في ذلك الوقت ولم تكن المرجعية السياسية والفكرية لأي منهم ديمقراطيةً أو مؤمنة بفكرة التعددية الحزبية. فقد كان حزب النهضة موالياً للمغرب، حيث لا وجود لأي نوع من التعددية الحزبية، لذا قام هذا الحزب بحل نفسه مندمجاً في «حزب الشعب الموريتاني»، وإن حاول بعضُ قادته فيما بعد إحداث بلبلة وفوضى داخل الحزب الجديد لأغراض معلومة. وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الاتحاد الذي يرتبط بعلاقة ولاء للفيدرالية المالية ذات النظام الأحادي ذي القبضة الحديدية أيضاً. أما جماعة اليسار التي ستظهر فيما بعد، أي حركة «الكادحين»، فقد أطلقت نضالَها في سبيل إسقاط «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» كمظهر للتحالف الشرير بين الأرستقراطية المحلية والبورجوازية الرأسمالية العالمية، تمهيداً لفرض «دكتاتورية البروليتاريا». ولم يكن لمصطلح التعددية الحزبية وجودٌ في قاموس الكادحين الذين كانوا يستقون مرجعيتَهم الفكرية والسياسية المباشرة من النموذجين الصيني والسوفييتي القائمين على السلطة الحديدية للحزب الشيوعي. كما كانوا معجبين بنموذجي الحزب الواحد في غينيا كوناكري بقيادة أحمد شيوخو توري الذي كان يقدم معارضيه طعاماً للأسود الجائعة، وفي الجزائر حيث كان حزب جبهة التحرير يفرض قبضتَه الحديدية على الحياة العامة ويغيِّب كثيراً من الساسة في السجون، بمن فيهم بعض قادة ثورة التحرير وعلى رأسهم أحمد بن بلا.
ومع ذلك فقد كان نظام الحزب الواحد برئاسة المختار ولد داده نظاماً استيعابياً منفتحاً على جميع الآراء والأفكار والتوجهات، ولم يتوقف يوماً عن محاورة معارضيه مهما صغُر شأنهم وقلَّ حجمهم، أو كما وصفه أحمد ولد سيدي بابا فقد «كان نظاماً تعددياً في إطار أحادي». ويقصد بذلك أن حريةَ الرأي والتداول والنقاش والاختلاف كانت مكفولة بالكامل داخل مؤسسات الحزب والحكومة. وهذا ما يشهد عليه وجود وزراء ومديرين وسفراء عديدين من خارج عضوية الحزب، كما تشهد عليه المناقشات الطويلة والحامية داخل الحكومة وداخل الحزب والانتقادات التي كان يتلقاها الرئيس نفسه بأريحية وصدر رحب خلال الاجتماعات، حيث كثيراً ما كان يتنازل عن رأيه استجابةً لرأي الأكثرية. وكما يحدّثنا كل من ناجي محمد الإمام ومحمد فال ولد بلال وغيرهما، فقد كان مقر حزب الشعب بمثابة «هايد بارك» في زمنه، إذ كان ساحةً لنقاشات سياسية على مدى الليل والنهار بين مختلف التوجهات والتيارات السياسية والفكرية.
كما تشهد على وجود نوع من "التعددية في إطار الأحادية الحزبية" حقيقةُ أنه غداة انقلاب العاشر من يوليو لم يكن هناك سجين رأي واحد ولا مطارد سياسي واحد ولا منفي واحد في الخارج.
ولعل أحدَ الأسباب الرئيسية وراء ذلك هو طبيعة شخصية المختار نفسه، بوصفه محاميا ورجل قانون مثقف ومشبَّع بقيم التنوير ومفاهيم العقلانية، وهو ما يتنافى مع دكتاتورية نظام الحزب الواحد الذي يمنع الاختلاف ويحجب التنوع في الآراء ويسد الباب أمام التناوب السلمي على السلطة. وقد ذكر هو نفسه، وأكده بمبه ولد سيدي بابا، أنه كان يخطط لترك الحكم والتفرغ لأدوار أخرى ليست سياسية بالضرورة.
أما القول بأن غياب التداول السلمي على السلطة هو سبب الانقلاب أو أحد دوافعه على الأقل، فهذا كلام مخالف تماما للواقع، وذلك ببساطة لأن مَن قاموا بالانقلاب لم تعنِ لهم الديمقراطية شيئاً؛ فلم تكن جزءاً من تكوينهم أصلا ولم يدفعوا شبراً واحداً باتجاه تحقيقها لاحقاً، بل انشغلوا بالصراع منذ أول يوم على السبب الحقيقي لانقلابهم، أي مناصب السلطة وريعها ومغانمها الوفيرة المريحة.. ولأن المناخ غير الديمقراطي ومنسوب حرية التعبير المنخفض جداً داخل كل من «هياكل تهذيب الجماهير» و«الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي» و«الاتحاد من أجل الجمهورية»، لا يشهدان على ذلك الادعاء مطلقاً بل ينفيانه ويفندانه بالكامل!