من شعر قضاة مدائن التراث

من يقرأ تراث القضاة بعيدا عن تخصصهم، يلاحظ قدرتهم على قرض الشعر، والاستئناس به في أوقات معينة من حياتهم، فمنهم من ظهرت له دواوين شعرية، ومنهم من اقتصر على مقطوعات يرجو منها هدفا محددا. ونحن في هذا المقال نقول بأننا تعرفنا على اللونين معا، غير أننا نخصص هذا المقال لما قيل في موضوع القضاء وحسب، لنلفت القراء إلى هذا اللون من دون توسع.

فالذي يطالع في تراث أهل انبوج يقرأ أول ما يقرأ كتاب ضالة الأديب، وهو ديوان العلامة والقاضي محمد بن محمد الصغير بن انبوج ففيه من الموضوعات ما تجعل منه شاعرا كبيرا، إلا أن ما يتعلق بالقضاء قد لا يسهب فيه. ومثله العلامة القاضي محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري الذي يمتلك هو الآخر ديوان شعر غير أن له التفاتة إلى تخصصه الأصلي رصدناه في ميدان القضاء وتعلقه به، يثبت ذلك تبادله مع القاضي محمد بن محمد الصغير بن انبوج، حين طالع بعض فتاويه الصحيحة فأعجب بها، فقال: 

فنحن ندين الله جل جـــــــــــــــــــــلالُه      بذا الحق والآبي عن الحق مُـــــــعْتَدِ

رأيت كثِيرًا من فتاوَى مَشائِـــخِي      ولم أر فتاوى مــــــــــــــــثل فتوى محمدِ

سمي أبيه المنتمي بانتمـــــــــــــــائه      إلى انبوج جد الألمـــــــــــــــــــــــعي المؤيدِ

أتانا بفتوَى كالصباح صحيــــــحة      كفتوى الإمام الشافعي الــــــــــــــــــــمجددِ

وفتْوَى إمام المالكية مــــــــــــــــــــــــــالكٍ      ونعمانَ والليث بن سعد وأحـــــــــــــــمدِ

أتى بجواب لا يجوز اعتراضه      وإني به فيه مدى الدهر مقـــــــــــــــــــــتدِ

هدانا فسلمنا هداه وقولَــــــــــــــــــــــــــه      ومن يهتدي بالمهتدي فهو مـــــــــهتدِ

وكان حينما يحكم في قضية ويتبين له عكس ما حكم، رجع عنه دونما حرج ولهذا قرظه القاضي محمد بن محمد الصغير بن انبوج، في رجوعه عن حكم شرعي تبين له نقض ما حكم به حيث قال:

جَزَى الله خيرًا صالحًا برجــــــــــوعه     إلى الحق لما لاح ضوء شُمُوعِهِ

وأحيا به شرعا محا الجهل رسمه     وخيــــــــــــــــــــــــــــــــم في أطلاله وربُوعِه

وأجزل في التوفيق والعدل حظـــــــه    وما كُلُّ قاضٍ نَال فَضْل كُرُوعِه

فِدًى لكَ ولاَّجُ القضَاء ومــــــــــــــــــــــــالَهُ    من العلْـــــــــــــــمِ إلا مِلْءُ نَقْرَةِ كُوعِه

يرى منه زند الحكم قبل اقْتِــــدَاحـــــه    ويسمعُ قولَ الخَصْم قبل شُرُوعِهِ

ويفديك رجاعٌ بأولِ لاَئـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحٍ    وآخر يلقى المـــــــــوتَ قبل رُجُوعِهِ

جزى الله عن أهلِ الحَنِيفةِ صَالحًا    بصالحَةٍ تُقضَى بِتشييت رَوْعِهِ

وهي مقطوعة غاية في الإنصاف من عالم متبحر في القضاء مثل العلامة محمد بن محمد الصغير بن انبوج، يعلم ما يكتب وما ينطق به من أحكام شرعية.

ومن مدينة شنقيط الخالدة، نذكر مثالا غير بعيد مما أثبتناه سابقا، إلا أن هذا الأنموذج جرى بين، العالم العلامة، والحبر الفهامة، شيخ شيوخ علماء مدينة شنقيط وبين العالم والقاضي، الشيخ بن حامن، فللأخير مع شيخه مطارحات شعرية نذكر منها قوله، وقد قدم لها أحدهم بقوله: قال الشيخ الذي جل قدره، وسار مسير الشمس ذكره، ومحاسنه سارت بها الركبان، وأثنى عليه بالمدح كل لسان، ولو قيل فيه ما قال الشاعر(ابن هانئ)لأجاد:

كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا      عن جعفر بن فلاحٍ أطيَبَ الخبرِ

ثمّ التقينا فلا واللّهِ ما سمعتْ       أُذني بأحسن مما قد رأى بصَري

أعني به العالم العلامة، الحبر الفهامة، الشيخ بن حامن، نفعنا الله بعلمه النافع: 

ألا أيها القاضي المطلق زوجه       على غائب من دون عدلين أُشهدا

بغيبته أو بعدها أو تـــــــــــــــــــــــــوسط      وتسمية المعدلين أولي الــــــــــــــــــــــهدى

ومن دون إرسال له وهو ممـــــكنٌ      ومن دون إعذار إليه كــــــــــــــــــما بدا

وطول زمان حده لابن قـــاسم      بأن الثلاث فيه قرب قد أســــــــــــــــــــــــــــندا

وجوب ابتداء للتلوم بــــــــــــــــــــــــــــعدها      قد اختاره بعضٌ رآه مســــــــــــــــــــــــــــــددا

ومن دون دعواها جهارا لخوفــــــها      صريح الزنا إن لم تطلَّق وتُعـــــــــقَدا

ودون يمين تحلف الزوج أنـــــــــــــــــها     توقعت المحذور فافهم لتــــــــــــــــــرشدا

ومع ذاك فالمشهور غير طلاقها      إذا كان قصد الضُّر لم يتـــــــــــــــــعمدا

فتلك شروط لا نهوض بــــــــــــــــــدونها      لتطليق زوج الغائب الــــــذْ تبــــــعَّدا

أعد نظرا للحكم بعد انبـــــــــــــــــــــــرامه      تجده قد انحلَّت عـــــــــــــــــراه وبُـــــــددا

أعد نظرا فيما فعلت ستلــــــــــــــــــــــــــقه      بعيدا عن التحقيق والحق مبعـــــــدا

كذا ذكر التودي ناصر صريحه       وكم ظاهر آت لما قال معْضدا

وهي قصيدة تظهر رؤية التلميذ لحكم عقده شيخه، فأبان التلميذ عن رأيه في ذلك الحكم من خلال تلك القصيدة التي توضح مدى قدرة الشاعر الفقيه على امتلاك ناصية اللغة وتسخيرها لحمل حكم شرعي بالغ الأهمية من حيث مكانته في المجتمع، ودلالته البالغة التأثير في صرف الحكم المقضى به إلى نقيضه مع تبيان الأسباب المؤدية لذلك. ومع وقار واضح أظهره التلميذ في طلب للشيخ بإعادة النظر في الحكم بكل تواضع وتأدب.

خميس, 07/12/2023 - 21:18