بدأ الحديث في أوساط الأغلبية الحاكمة منذ أشهر عن ضرورة ترشح فخامة الرئيس لمأمورية ثانية، وفي هذا الصدد اجتمع فخامته مع أغلبيته في القصر الرمادي للتشاور حول الخطة المتّبعة في الانتخابات المقبلة، وكثُرتالشائعات عن إمكانية تعديل وزاري بعد عيد الاستقلال يُمثل مختلف الطيف السياسي، ربما تمهيدا لسحب البساط من تحت المعارضة التي قد تُفكر في الاتفاق على مرشح واحد.
ولمحاولة قراءة واقع يزداد غموضاً مع اقتراب الاستحقاقات الرئاسية، سننطلق من ثلاث مُقاربات، يتعلق أولها بنظرة الأغلبية الداعمة، أما ثانيها فيتمحور حول رؤية المعارضة المنقسمة على نفسها، دون أن نهمل بعدا ثالثا تدور حوله معظم التجاذبات التي تشهدها الساحة السياسة، نظرا لأهميته المرحلية في مواسم السياسة.
ليس سراً أن الأغلبية الداعمة لفخامته تعاني من عدة إكراهات مركبة ومُعقّدة، تتجاذبها ثنائية تجمع بين الطّمع في تحقيق مصالح شخصية والخوف من مسطرة إجرائية صارمة يتَّبعُها الرئيس محمد الشيخ الغزواني مع أكلة المال العام، فلم يعد خافيا أن سياسة الموالاة مقابل غض الطرف عن سرقة المال قد انتهت صلاحياتها، مع نظام أصبح يفكر بجد في مرحلة ما بعد السلطة وبطريقة صامتة ترتكز على ثلاثة أبعاد عميقة في تصورها الإجرائي والعملي، مثل الرقابة الدقيقة لموارد الدولة، إضافة للسريّة التّامة في اتخاذ أي خطوة، فضلا العقوبة المناسبة بعيدا عن أعين السلطة الرابعة، وفي هذا الصدد أُطيح بصمت برؤوس داعمة للرئيس بسبب اتهامات بسوء تسيير تأكّدت مفتشية الدولة من أن أصحابها تجاوزوا كل حدود اللباقة المسموح بها في الصفقات العمومية.
هذا الخوف الصّامت من قبل أغلبية تراقب بحذر ما يتعرض له بعض الأشخاص الوازنين فيها، أو هكذا اعتبرهم البعض، يُقابله حرص النظام على عدم خلق فراغات في الحواضِن السياسية الداعمة بطبعها لكل الأنظمة، التي تعودت على سياسيين بعينهم، ولعل هذا هو السر في طغيان أسلوب المحاباة من قبل من يحكم مع أغلبيته، وأعتقد أن الميثاق الذي وقعه الحزب الحاكم مع بعض أحزاب المعارضة، يأتي ضمن سياسة تدريجية للتخلص من وجوه بعينها قد يشكل استمرارها في المشهد السياسي الداعم لرئيس الجمهورية عبئا على مأمورية ثانية سيسعى غزواني خلالها لتنفيذ ما بقي من تعهداته بطريقة يفترض أن تستفيد من التجارب المكتسبة في مأموريته الأولى.
في البعد الآخر تبدو المعارضة أكثر هشاشة من أي وقت مضى، فقد عمل النظام على تمزيقها طَوال الأربع سنوات الماضية بأسلوب جمع بين الإغراء والاحتواء الممنهج، كما حدث لحزب تواصل الذي حافظ خلال مأمورياتمتتابعة على زعامة المعارضة الديمقراطية، لكن كل المؤشرات اليوم توحي بأنه ينتقل لمراحل الاحتضار السياسي، خصوصا بعد استقالة شخصيات مؤسسة لا تزال، حتى كتابة هذه الأحرف، تبحث عن موطئ قدم لها تحت عباءة الموالاة وبأساليب مختلفة عبر تسويق خبرات لا تبدو مغرية للزعامات التقليدية الداعمة للنظام.
بيد أن كل المحاولات الساعية لتكوين كتل انتخابية ضاغطة تجمع بين الأحزاب المحسوبة تاريخيا على FLAM وحزب "الرك قيد التشريع" بزعامة بيرام الداه اعبيد، تُعيقها عراقيل معقدة في الكثير من جوانبها، بعد التجارب الفاشلة في رئاسيات 2018 ، فلم يعد خطاب الشرائحية قادرا على خلق كتل فاعلة ذات مصداقية باستطاعتها إقناع الناخب العادي بضرورة التّموْقع في خنادق الشريحة، نتيجة لعوامل عديدة بعضها متعلق برؤية الشباب لهذا النوع من الأساليب، الذي تجاوزه الزمن في نظر الكثير منهم، والبعض الآخر مرتبط بإكراهات مادية معيقة بطبعها لأي خطوة عملية في هذا المنحى بالذات، ناهيك عن أبعاد أخرى أكثر تعقيدا لها علاقة مباشرة بجوانب انتروبولوجية لا تزال عصية على الاستيعاب في مشهد سياسي بالغ التعقيد في جميع تجلياته.
لا تبدو الغالبية العظمى من هذا الشعب مهتمة لكل هذه التجاذبات بين من يوصفون هنا - من باب المجاز- بالمعارضة والموالاة، فقد اعتادت على اهتمامهم بها في مواسم بعينها، لذا أصبح الكثير من الناخبين يستغل ذلك الاهتمام لتحقيق مكاسب مادية عبر عملية بيع وشراء لا يهتم أصحابها ببرامج السياسيين وأقوالهم، هذا البعد الثالث من المقاربة المشار إليها، هو الذي يشكل في نظري خاصرة رخوة يمكن للمال السياسي اختراقها بسهولة، وفي هذه الحيثية بالتحديد يتداول الشارع الموريتاني خبر ترشح إحدى الشخصيات المحسوبة اجتماعيا على وسط رئيس سابق، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للسوق الانتخابية على اعتبار أن الصورة الماثلة في الأذهان هي أن كل من فقد السلطة مستعد لإنفاق المليارات لاستعادتها،كلما أتُيحت له الفرصة لذلك، وتعد المناورات بالكتل الانتخابية الوازنة هي الحل الأمثل، بحسب متابعين، لمن يحاول في ظل الظروف الحالية إيجاد طرق للتخلص من عقدة ما يعرف بملفات العشرية.
هذا التصور قد يدفع ببعض الموالاة إلى اللعب على ازدواجية المنفعة ومحاولة التحكم في خيوط لعبة ما بعد نهاية المأمورية الثانية، وقد يمتهن آخرون هوايتهم المفضلة في قلب المجن على الساسة عند أي منعرج يرونه مناسبا، رغم أن الواقع يوحي بأن الأمر محسوم سلفا لصالح ولد الشيخ الغزواني ، فالرجل الذي انتزع نواكشوط من المعارضة، قادر على ضمان فوز مريح في الشوط الأول من الانتخابات، لكن تفاصيل الأحداث وخارطةالتموقعات غير المرئية، ومخاوف الكثيرين من المحاسبة، كلها أمور من شأنها أن تضفي ضبابية على المشهد السياسي في ظل استعداد الرئيس لخوض منافسة للفوز بمأمورية ثانية يستحقها في نظر معظم فقراء البلد .
د. أمم و لد عبد الله