في الوقت الذي مازال البعض يناقش فيه الحدود الأخلاقية لتطوير الذكاء الاصطناعي المعروف اختصارا بـ AI، يبدو أن هذا الأخير ليس مستعدا للانتظار، وقد بدأ فعلا يفرض نفسه في مجالات مختلفة، وتتم الاستعانة به بشكل علني وسري في تنفيذ مهام عديدة، وفي هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على تغلغله في الصحافة مع بعض النماذج.
هناك وكالات أنباء عالمية أعلنت بصراحة أنها ستستخدم الذكاء الاصطناعي وأخرى قالت إنها "ستجربه" وثالثة وعدت بأنها لن تسمح له بأن يكون جزء من أي محتوى إخباري صوتا كان أو صورة أو مقطعا، لكنها تركت الباب مواربا بالقول إنه قد تتم الاستعانة به لتدعيم" محتوى معين".
بالنسبة لوكالة أسوشييتد برس، فقد استبقت هذه الموجة بالإعلان عن ميثاق أو كُتيّب أخلاقيات ومبادئ توجيهيحول استخدام الذكاء الاصطناعي، ورد فيه أن الوكالة تهدف إلى جعل المتلقي يفهم أو يتفهم أنها وإن كانتستجرب هذا الوافد الجديد، إلا أنها ستكون حريصة على تأمين متابعيها من أي تأثيرات جانبية قد تنتج عن استخدامه. ووعدت في نفس السياق أنها ستعكف دون ملل على فحص أي مادة أنتجها الذكاء الاصطناعي مثلما تقوم به مع أي مادة أخرى، مؤكدة على عدم استغلال أي مواد مرئية أو مسموعة يدخل هذا الذكاء في صناعتها.
وأشارت هذه الوكالة ذائعة الصيت إلى أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تجميع القصص وتنظيمها وأرشفتها، مؤكدة أن الدخول في عصر هذا الذكاء سيتم بحذر شديد بعد ضمان حماية مصداقيتها وثقة جمهورها.
من جهتها قالت وكالة رويترز إنها تدعم جعل صحفييها على دراية كاملة بالتكنولوجيا، إلا أنها "اختارت نهجا واضحا ودقيقا اتجاه الذكاء الاصطناعي، يقوم على حماية دقة الخبر ويعزز الثقة." أما صحيفة الغارديان البريطانية فقد ذكرت في بيان لها حول نفس الموضوع، أنها تستخدم الذكاء الاصطناعي لكن بإشراف مباشر من رؤساء التحرير، وهذا الاستخدام يشمل حتى الآن التدقيق اللغوي والعمليات التجارية والتلخيص.
وفي الوقت الذي تسير فيه المؤسسات الإخبارية الكبرى بحذر على طريق استخدام الذكاء الاصطناعي، إلا أنهذه التكنولوجيا قد وفرت فعلا فرصة لغرف الأخبار الأصغر التي لا تملك ميزانية الأولى ولا كوادرها البشرية، مثلا، نيوز كورب في أستراليا، تنتج 3000 مقال أسبوعيا باستخدام الذكاء الاصطناعي وبالاستعانة بـ4 موظفين فقط التوليدي (يشير الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى نماذج الذكاء الاصطناعي القادرة على إنشاء محتوى جديد، عوضا عن مجرد تحليل البيانات الموجودة أو استخدامها لتوليد مرئيات جديدة، وتعمل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية على إنتاج أنواع متنوعة من المخرجات، بما في ذلك النصوص والصور والأعمال الفنية) حول مواضيع مثل الطقس وأسعار الوقود وظروف حركة المرور. كما أعلنت صحف محلية عديدة في أوروبا أنها استعانت بالذكاء الاصطناعي لصياغة ملخصات لمقالاتها، مؤكدة أنه سيتم فحصها من قبل محرر قبل إضافتها إلى المقال الأصلي، مشيرة إلى أنها ستضيف سطرا في الأسفل يوضح أنه تم استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة هذه المادة.
ومما يعكس تغلغلا أكبر للذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة، هي الدراسة التي نشرها مركز أبحاث تابع لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، شمل أكثر من 120 محررا وصحفيا وتقنيا وصانع محتوى على التواصل الاجتماعي في 46 دولة، جاء فيها أن أكثر من 75 بالمائة استخدموا الذكاء الاصطناعي في مرحلة ما من مراحلعملية جمع الأخبار وإنتاجها وتوزيعها.
كما كشف استطلاع آخر أجراه مركز تابع لشركة غوغل،أن 90 بالمائة من غرف الأخبار تستخدم بالفعل شكلا من أشكال الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار، و80 بالمائة في توزيعها، و75 بالمائة في جمعها، وتشمل هذه الأشكال، النسخ الآلي والترجمة واستخراج النص من الصور والتلخيص الآلي، هذا بالإضافة إلى التدقيق اللغوي وكتابة العناوين الرئيسية أو حتى المقالات، بينما يتم التوزيع عن طريق استخدام محرك بحث يستند إلى الذكاء الاصطناعي وتحديد جمهور معين ليظهر له المحتوى.
عربيا، يرى معهد الجزيرة للإعلام وهو أحد رواد التدريب الإعلامي، أن الجدل الدائر بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي في الإعلام يحتاج إلى النقاش بشكل أوسع مع المختصين والخبراء لفهم ماهية هذه التكنولوجيا وتأثيرها في المجال الإعلامي، بينما يرى منتدى الإعلام العربي في دبي كخلاصة لنقاش دار بين الخبراء الذين شاركوا فيه، يرى أنه مازالت هناك مؤسسات إعلامية عربية لم تتقدم خطوات نوعية في تعزيز استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتواها، بل الأكثر من ذلك أن البعض منها ما زال حتى الآن غير مواكب للتطور الرقمي في قطاع الصحافة. وأشار خبراء في نفس المنتدى أن حوالي 60 بالمائة من المنتج الإعلامي العالمي سيستعين بالذكاء الاصطناعي الذين يرون أنه سيعزز من القدرات الإبداعية ويوفر الوقت والمال.
أما فيما يتعلق بالنماذج فيمكن الإشارة إلى تجربة بعض الصحف الإلكترونية العربية، التي استخدمت الذكاء الاصطناعي ليساعدها ومن خلال تطوير أدوات تحليل بيانات على تحديد ومعرفة توجهات القراء وفهم متطلباتهم تمهيدا لتوجيههم نحو المحتوى الذي يرغبون فيه.
وبين من يرى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة أصبح أمرا واقعا ومن يرى أن العنصر البشري لا يمكن الاستغناء عنه مهما تغولت هذه التكنولوجيا، يبقى مقدم النشرات الذي قدمته وكالة الأنباء الرسمية الصينية شينخوا مستخدمة الذكاء الاصطناعي، علامة فارقة في عملية إثراء النقاش حول استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، كما أنه بالإضافة إلى مظاهر أخرى، يطرح تساؤلات عديدة وكبرى حول مستقبل الصحافة في ضوء هذا الانتشار السريع لاستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث تكررت أسئلة كنا نطرحها عند ظهور الإذاعة ثم التلفزيون بأن الصحافة الورقية ستختفي، ثم طرحناها مع ظهور المنصات بالقول إنها ستكون بديلة للتلفزيون، فهل سنطرح نفس السؤال حول الصحافة التقليدية مستقبلا في ضوء الاستخدام الكامل للذكاء الاصطناعي؟
المصطفى ولد البو - كاتب صحفي